
مما لا شك فيه أن الدراما البناءة تفعل مفعول السحر في معالجة القضايا الاجتماعية من خلال محتواها الهادف الذي يلامس مشكلاتنا اليومية و نحن في غفلة منها و قد لا نراها مشاكل اصلا فتتجلي عبقرية الكاتب وحصافة المخرج و ابداع الممثل لتكتمل الوظيفة الرسالية بالتغلغل في دواخل الواقع و خيوطه المتشابكة و تنبيهنا اولا بوجود خلل ما في المجتمع او الاسرة او الفرد ومن ثم وضع الوصفة المناسبة لمداواته.
استوقتفني احدي الاعمال الدرامية المصرية القديمة الرائعة جدا للنجم الراحل احمد زكي و المخرج ابراهيم الشقنقيري و نجوم اخرين تميزوا جميعهم في تادية ادوارهم عبر الفيلم الذي خلد بذاكرتي طويلا و اسمه انا لا اكذب لكن اتجمل .
تناول الفيلم قصة شاب يدعي ابراهيم وقع في غرام زميلته بالدراسة واسمها خيرية فاراد التقدم لطلب يدها الا ان الفوارق الطبقية بينهما كانت عائقا امام الموافقة علي الطلب و قد كان الشاب ينتمي الي اسرة فقيرة للغاية و هو يعمل مع والده في مهنة معروفة بوضاعتها المادية و المعنوية بين المهن و هي بلا شك لا تؤهله لان يكون عريسا مرغوبا, مع العلم بانها عملا شريفا لا تشوبه شائبة , عموما لتفادي هذه العقبة في سبيل الوصول الي زوجته المستقبلية قرر الشاب ان يخفي حقيقة مهنته اضافة الي اي حقيقة اخري من شانها ابعاده عن مشروعه الغرامي فبدأ يكذب و يبرر بانه يتجمل.
اخيرا وضحت الحقيقة و اكتشفت خيرية خداع ابراهيم لها وفاجأته بانهاء علاقتهما قائلة له (انني احببت ابراهيم الذي كان يتجمل اما ابراهيم الحقيقي فانا لم احببه و حسب تقديرها للموقف فقد كان التجمل بالنسبة لها مقبولا اكثر من الحقيقة).
في حياتنا اليومية يوجد الكثيرون جدا من اشباه ابراهيم الذي يتجمل بالكذب و هم قوم يعيشون بين ظهرانينا يسايرون معايير الناس المطلوبة بالتجمل الذي يقضي علي الحقيقة تماما , يظهرون انفسهم علي ثوب من المثالية و يستبدلون كل حقيقة غير مرغوب فيها بأوهام من نسج خيالهم يعتقدون بانها طوق نجاتهم من قسوة المجتمع في انتقائه لمواصفات عناصره المفضلة و يحسبون انهم يحسنون صنعا و في واقع الامر انهم لا يصلون لاي غاية لان ارضاء البشر غاية لا تدرك فهم بهذه الطريقة لا يخدعون الا انفسهم .
تظل صفة الكذب دوما منبوذة وذميمة حتي و لو اصبحت معتادة و مالوفة فهي تقتل الصدق و تهدم الثقة بين الناس و لكن تتعاظم عواقبها الوخيمة و اثارها الكارثية عندما تصدر من اولياء امورنا و حكامنا الذين ائتمناهم علي مصير بلادنا و حياتنا الكريمة التي اضحت امانة في اعناقهم فهؤلاء إن كذبوا و تحروا الكذب تكون النتيجة وبالا علي شعب باكمله لانهم ببساطة يتحولون من شرفاء الي مجرمين و من امناء الي خونة و يفقدون قدرهم بين محكوميهم ولا محالة يزول ملكهم و يركلون الي مذبلة التاريخ غير مأسوف عليهم و لا علي تاريخهم البغيض .
رغما عن انتشار ظاهرة الكذب و شيوعها في معظم الاوساط السياسية في اي مكان في العالم الا اننا نراها علي السن زعمائنا كانها شرطا من شروط اعتلاء عرش السلطة فنلاحظها علي اشكال عديدة و روايات متنوعة و هي علي اختلاف كيفياتها و اساليبها تأتي في معظم الاحيان بدافع الهروب من المساءلة او تحقيق مكاسب حزبية او شخصية ضيقة او لاثارة روح الدعابة و السخرية لتشتيت الانتباه و صرف الانظار عن فساد المسئولين الذين قال احدهم ذات مرة ان الفئران اكلت الكبري الذي تهاوي بسبب التلاعب بمواده كما اتهم اخر جماعة النمل بالتعدي علي سكر المواطنين المنهوب .
اضافة الي ما سبق تظل اكبر كذبة في ايامنا الراهنة هي الوعد ببسط الديمقراطية المسكينة علي ربوع سوداننا الحبيب, الوعد الذي تبخرمع نيران الحرب الضروس التي قضت علي الاخضر و اليابس , وقتلت الرجال و الصبيان و الشيوخ و رملت النساء و يتمت الاطفال وارجعتنا سنينا ضوئية للوراء تمظهرت ملامحها في المجاعات و الكوليرا و التلوث و انعدام الامداد المائي و الكهربائي و الانترنت و الاتصال العادي فصرنا اضحوكة بين بلدان العالم و مضربا للمثل في التخلف و الفشل و انسداد الافق .