
رحلتي إلي الجنوب .
لا زلت كلما هاجت بى الذكرى ..أذكر رحلتى الأولى واليتيمة إلى جنوب السودان …
كانت وزارة الصحة آنذاك توفد كل عام ستة سسترات للمدن الكبيرة فى جنوب السودان ..(واو ..جوبا ..وملكال ) وقد حالفنى الحظ أن أذهب و زميلة لى إلى ملكال …وركبنا طائرة الخطوط الجوية السودانية (الفوكرز ) إلى ملكال ..كانت الرحلة غاية فى المتعة ..إذ أننى بطبعى أحب السفر …
ووجدنا بعض المسئولين فى استقبالنا حيث أخذونا إلى بيت صغير لنسكن فيه …كان عبارة عن فندق صغير وجميل تحتضنه الأشجار التى تتميز بخضرة يانعة …وكأنها جميعا نبتت للتو واللحظة …كانت الفاكهة تتدلى من الأغصان …ثمرات مليئة بالعصير …المانجو والأناناس والباباى …كانها فى جنة من صنع الواحد الخلاق …
كنا نسير مطلع كل نهار فى طريق ظليل تنبت على جانبيه الأشجار الباسقة …فلا نتعب ولا نمل من السير ….ونعود للسكن الجميل ..فى انتظار بدء الإمتحانات لطلبة التمريض …والتى كنا نشرف عليها كمراقبين ..ثم نمتحنهم فى الشفهى ..ثم العملى …وهذا الأخير يتوقف عليه نجاح الطالب من عدمه …
أذكر السودانيين الشماليين من سكان الجنوب والذين يمارسون التجارة وقد أتوا وهم شباب وتزوجوا وأنجبوا واستقروا هناك …كانوا يقومون بدعوتنا يوميا لتناول الغداء أو العشاء بكل الكرم السودانى المعروف …
وفى يوم الإمتحان العملى …فوحئت بأن المعدات البسيطة التى أتينا بها للأمتحان العملى لا يعرفها الطلبة هناك …فى حين أنهم نشطون للغاية فى الأداء العملى …لم أكن أستطيع أن أدعهم يرسبون لأنهم جميعا وبدون استثناء يجهلون أسماء تلك المعدات فذلك لا يعتبر إهمال من جانبهم …وكنت أعلم أنهم فى حاجة شديدة للعمل وهذا أيضا فى صالح الوطن ..واستمعت لهم وعرفت مقدار الإهمال الذى يعانى منه الجنوب ..إذ أصبت أنا شخصيا بالملاريا وكنت فى (عرض ) ثلاث حبات لعلاجها لم توجد إلا بعد يومين بحوزة طبيب كان قادما من العاصمة ..و ملكال أو الجنوب عموما هو مرتع لحشرة (ألأنافوليس ) الناقلة لعدوى الملاريا …فقررت منح درجات النجاح لكل الطلبة …
عدت للخرطوم …وأذكر أننى كتبت مقالا مطولا فى جريدة (الأيام ) بعنوان (مستشفى ملكال …عدو الإنسانية الرابع ) ضمنته كل ما لاحظت من نقص فى ذلك المستشفى الكبير …ولاقى مقالى هذا آذانا صاغية …وقلوبا عامرة كقلبى بحب الوطن …وأنبأنى وكيل وزارة الصحة بأنهم أرسلوا (مجروسين ) يجملان كل ما يمكن أن يساعد فى تغطية الثغرات التى كتبت عنها …كما وصلتنى فيما بعد رسالة إمتنان وشكر من الطلبة الذين قمت بامتحانهم …كان وقت تستجيب فية الجهات المعنية لما يكتب بدلا عن مصادرة الصحيفة …فهل أبالغ إذا قلت لكم أن الحسرة تأكل قلبى كل يوم لفقدان هذا الجزء الذى كنت أتخيله لا يتجزأ من الوطن الحبيب ؟؟؟