شئ للوطن ــ م.صلاح غريبة – مصر Ghariba2013@gmail.com ــ وداعًا يا حزن… السودان يبتسم ــ بعانخي برس
بعانخي برس

في قلب محطة رمسيس، تلك البوابة الصاخبة التي تبتلع الأفراح والأحزان وتلفظها على شكل قطارات، تتجسد قصص لا تُحصى. ولكن ما شهدته مؤخرًا في هذه المحطة لم يكن مجرد وداع عابر، بل كان مشهدًا استثنائيًا يحمل في طياته أملًا وثورة صامتة. لقد كان وداعًا لقطار العودة الطوعية الذي يحمل على متنه المئات من السودانيين العائدين إلى وطنهم، مشهدًا يجمع بين الدموع والابتسامات في تناغم غريب، وكأن الحياة قررت أن تكتب سيناريو جديدًا للوطن الذي مزقته الحرب.
لم تكن محطة رمسيس مجرد محطة قطار في ذلك اليوم، بل تحولت إلى مسرح كبير للمشاعر الإنسانية. كان الهواء مشبعًا بترقب ممزوج بحنين عميق. الوجوه التي رأيتها كانت تحمل قصصًا طويلة، قصصًا عن النزوح واللجوء، عن ليالٍ قضوها بعيدًا عن أرضهم، وعن أحلام لم تغادر عيونهم أبدًا. لقد رأيتهم يودعون أصدقاءهم وأقاربهم، يتبادلون العناق الأخير، وتلتقي الأيدي في وداع قد لا يتكرر قريبًا. ولكن ما لفت نظري حقًا هو أن هذا الوداع لم يكن كئيبًا، بل كان مشحونًا بالطاقة الإيجابية. كانت الابتسامات أعمق من الدموع، وكانت عبارات الشوق إلى الأهل والوطن أقوى من مرارة البعد.
كان هذا القطار، بالنسبة لهؤلاء العائدين، أكثر من مجرد وسيلة نقل. كان رمزًا. كان قطار الأمل. قطار البدايات الجديدة. لم يكن مجرد رحلة، بل كانت عودة إلى الذات، إلى الهوية. سمعت صوت أحد المعلمين وهو يقول بحماسة: “نعود اليوم بعزيمة جديدة.. التعليم هو سلاحنا في معركة الإعمار”. كانت كلماته ليست مجرد شعارات، بل كانت تعبيرًا صادقًا عن إيمان عميق بأن البناء يبدأ بالعلم. هذا الإيمان هو ما يجعل هذا الوداع فريدًا من نوعه. إنه وداعا للحزن، وداعا لليأس، وداع للانتظار.
لا يمكن أن ننسى أيضًا كلمات الحاج موسى، المزارع من الجزيرة، الذي ردد بكل فخر: “الأرض تنتظرنا.. العودة ليست نهاية المطاف، بل بداية زرع جديد ودعم الإنتاج”. هنا تكمن حكمة هذا الشعب العظيم. لم يأتِ المزارع ليعود إلى أرضه فقط ليرتاح، بل ليعمل ويُنتج، ليعيد الحياة إلى الأرض التي انتظرته طويلاً. هذه العزيمة هي الوقود الذي سيشعل محركات التنمية في السودان من جديد.
أما موظفة الطيران المدني، فكانت كلماتها بسيطة وعميقة في آن واحد: “العودة بالنسبة لي صفحة أمل.. نريد أن نرى السودان واقفًا من جديد”. في هذه العبارة تتجلى كل الرغبة في التغيير. إنها ليست مجرد رغبة في العودة، بل رغبة في رؤية الوطن قويًا ومزدهرًا. إنها الرغبة في أن يصبح السودان نموذجًا للصمود والتعافي.
لقد علمني هذا المشهد في محطة رمسيس أن الأمل يولد من رحم المعاناة. وأن الوداع، حتى وإن كان مؤلمًا، يمكن أن يكون بداية لحياة جديدة. هذا القطار لم يحمل 1250 راكبًا فحسب، بل حمل أحلامًا وطموحات، وتاريخًا حافلًا بالصمود، ورغبة صادقة في بناء مستقبل أفضل. لقد رأيت في عيون هؤلاء العائدين بريقًا لم تطفئه سنوات النزوح. كان بريقًا يخبرني أن السودان لم يهزم، وأن الشعب السوداني لم يفقد إيمانه بوطنه.
مشروع العودة الطوعية الذي نظمته منظومة الصناعات الدفاعية السودانية، والذي نقل حتى الآن أكثر من 82 ألف شخص، ليس مجرد مبادرة لوجستية، بل هو مشروع وطني يعكس عمق الروابط بين الشعبين الشقيقين في مصر والسودان. إنه يثبت أن الأزمات يمكن أن تكون فرصة لإعادة اللحمة والترابط، وأن الإنسان، مهما بعد عن وطنه، يبقى قلبه ينبض بحبه.
في لحظة انطلاق القطار، علت أصوات الدعوات بالسلامة، وارتفعت الأيادي تلوح من النوافذ. لقد كانت تلك اللحظة تجسيدًا حيًا للإرادة الصلبة. كانت رسالة واضحة إلى العالم بأن السودان يبتسم، رغم كل الجراح. كانت رسالة بأن العودة ليست هروبًا من الواقع، بل مواجهة له بعزيمة وإصرار.
في محطة رمسيس، كان الوداع يبتسم، وكان الحزن يغادر.