
ارتبط التعليم الأكاديمي للبنات في السودان بالشيخ بابكر بدري -طيب الله ثراه- وبمدينة رفاعة في ولاية الجزيرة في العام 1906. ثم توسع تعليم البنات في مختلف المراحل الأولية والوسطى والجامعات، وقد وصلت المرأة السودانية إلى الجامعات البريطانية آنذاك للدراسات فوق الجامعية، ومثلن السودان بالثوب السوداني الأبيض؛ بياض شرفهنّ وتربيتهنّ في بلاد المهجر. وللمثال لا الحصر، كانت هناك الطبيبة السودانية خالدة زاهر، ثم فاطمة عبد المحمود، ثم فاطمة طالب وهي أول قاضية سودانية..
وبمرور الزمن، توسع تعليم البنات في السودان أكثر فأكثر، وظهر تفوقهنّ في الشهادة السودانية، ومنهنّ من أحرزت المرتبة الأولى على مستوى السودان. وأيضاً للمثال لا الحصر:
خالدة عباس رمزي..
ومواهب حسين سليمان..
ورهف الأمين الطيب البشير.
وهذا النجاح، بل التفوق الباهر، يؤكد رغبة المرأة السودانية في التعليم وقدرتها على النبوغ والتميز في كل المجالات العلمية. وكل ذلك لا يمنع أنها الأم والأخت والزوجة والبنت، وأنها عماد المجتمع، وأنها صانعة الأجيال وصانعة المجد للشعوب، وصانعة الاستقلال والعزة للأوطان؛ فهي أم القادة وأم الشهداء..
هي رمز الحب والوفاء.. هي قصة بداية دون انتهاء..بداية للحياة، بداية للأمل، بداية للاستمرارية، بداية للعطاء، بداية للحكاية؛ حكاية أسرة صغيرة بين اثنين تمتد لتصبح قبائل وشعوباً بل أمةً تجمع مختلف الأجناس في وعاء ديني وفكري واحد..
يكفي أن بداية الخليقة كانت أم كل البشر حواء الأولى، ولم تنتهِ بداية لحواء، واستمرت رسالتها في التجدد للوجود.
وحملت حواء مسؤوليتها بكل قوة وتحدٍ، فهي تصنع لنفسها معنى ووجوداً بالعلم والتعلم، وكذلك تصنع الأسرة التي تمتد لتكون مجتمعات وحياة.
وفي الآونة الأخيرة، وبسبب الاضطراب السياسي في السودان، أصبحت حواء السودان بين مطرقة التحصيل العلمي والتأجيل، وبين سندان العنوسة!!!
وهنا كان الخيار أكثر صعوبة؛ فمسيرة التعليم محفوفة بالمعاناة والتحديات منذ العام 2018. فكان التأجيل -الذي فرضته تلكم الظروف- سبباً في تكدس الدفعات في الجامعات، بل وتكدس الخريجين دون الانخراط في دواليب العمل، وظهرت المهن البديلة التي لا تفي باحتياجات الذكور، فما بالك بالإناث..
واللاتي ينتظرنّ صفوف التخرج وطموحات العمل والإنتاج وإثبات الذات، وفوق كل ذلك الالتحاق بقطار الزواج. ولكن بسبب تأخير الدراسة، وتمسك الكثيرات وأسرهن باقتران الزواج بتكميل الدراسة والتخرج؛ لأن الشهادات العلمية سلاح للحماية من ضغوطات الظروف الاقتصادية، وكذلك ركيزة اجتماعية تساعد المرأة في توفير احتياجاتها والأسرة الكبيرة، وأيضاً الأسرة المنوط بها أن تصنعها مع شريك الحياة.
بل ذهب الأمر إلى أبعد من ذلك في فهم المشاركة بسبب الضغط الاقتصادي، بحيث أصبح الرجل يبحث عن شريكة الحياة بشرط أن تكون امرأة متعلمة وموظفة؛ لكي يضمن أولاً تربية الأم المتعلمة لأبنائها بسيكلوجية تطورات العصر وتمازج المجتمعات والثقافة الدخيلة!! وثانياً؛ لكي يصل إلى حد الوسطية في منصرفات الأسرة بدخليهما..
وهنا أصبحت حواء السودان في الفصول الدراسية وقاعات الجامعات هي طالبة للتعلم لأهميته في حياتها وتطوير شخصيتها، ولكن أصبح التعلم والتحصيل الدراسي -بسبب الظروف التي حلت عليه من محن وخطوب الوطن- أصبح طريق نهايته العنوسة!!!..
وأصبحت حواء السودان التي لمع نجمها في القرن الماضي في جامعات الإمبراطورية البريطانية بين سندان التعليم ومطرقة العنوسة، والاختيار لطريق التعليم يحتاج إلى قوة عزيمة ووعي مجتمعي؛ فتعليم المرأة نجاح للمجتمع ككل وليس لها وحدها؛ فهي عماد المجتمع والمدرسة التي تعد الشعوب..
كتبت المقال من صوت اعتراض لإحدى طالباتي في فصول الدرس، عندما ذكرت لهنّ أن الزمن أصبح كافياً للاستذكار وتجويد المعلومات بعد أن حُدّد امتحان الشهادة السودانية في منتصف أبريل 2026.
فصاحت إحداهنّ معترضة: “نحن بالتأخير ده حَدّدوا لينا مستقبلنا بين خيارين: يا العرس.. يا التعليم وتأجيلاته والعنوسة..”
فكان ردي لها: “التعليم سمح.. كوني سمحة بالعلم.”





