راي

م. نادر ذكي الشريف يكتب .. المستقبل السياسي للسودان: بين صراع القوى وسيناريوهات الاستقرار والفوضى ــ بعانخي برس

بعانخي برس

 

 

في مقالٍ صحفي سابق تناولتُ مستقبل السودان السياسي في ظل صراع القوى وتقاطعات الجغرافيا والمصالح الدولية، مشيرًا إلى أن المتغيرات الجيوسياسية في الإقليم تؤكد أن استقرار السودان لم يعد شأنًا داخليًا بحتًا، بل بات جزءًا أصيلًا من معادلة الأمن الإقليمي والدولي. فالسودان، بما يملكه من موقع استراتيجي يربط بين أفريقيا والعالم العربي، ويشرف على أحد أهم الممرات البحرية العالمية، أصبح ساحة تتقاطع فيها حسابات الأمن، والاقتصاد، والنفوذ.
تدرك دول المحور الأفرو-عربي، والدول العربية المطلة على البحر الأحمر، أن استمرار الحرب في السودان يفتح المجال أمام تهديدات تتجاوز حدوده الجغرافية، من تفكك الدولة الوطنية، إلى تصاعد نشاط الجماعات المسلحة، وتهديد أمن الملاحة، وصولًا إلى تدفقات الهجرة غير النظامية وتنامي اقتصاد الحرب. ومن هنا، فإن إنهاء الصراع لم يعد خيارًا أخلاقيًا أو إنسانيًا فقط، بل ضرورة استراتيجية تمس المصالح الأمنية والاقتصادية لتلك الدول.
وانطلاقًا من هذه المعطيات، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل السودان السياسي:
السيناريو الأول: تسوية سياسية مدعومة إقليميًا ودوليًا
يقوم هذا السيناريو على تلاقي إرادة داخلية مع ضغط إقليمي ودولي منظم لفرض مسار سياسي شامل، يعيد بناء مؤسسات الدولة ويُنهي منطق السلاح كأداة للسلطة. نجاح هذا المسار سيحوّل السودان إلى عامل استقرار في محيطه، ويعيد دمجه في منظومة البحر الأحمر والقرن الأفريقي كشريك أمني واقتصادي، بما يفتح المجال للاستثمار وإعادة الإعمار، ويحد من التدخلات الخارجية المتنافسة.
السيناريو الثاني: استمرار الصراع وتدويله
في هذا السيناريو تستمر الحرب بوتيرتها الحالية، مع انخراط غير مباشر لقوى إقليمية ودولية، كلٌ وفق مصالحه وحساباته الخاصة. ويؤدي ذلك إلى إطالة أمد الصراع، واستنزاف الموارد، وتكريس اقتصاد الحرب، وتحويل السودان إلى ساحة صراع نفوذ مفتوحة. هذا المسار يشكل تهديدًا مباشرًا لأمن البحر الأحمر، ويزيد من هشاشة الإقليم، ويجعل الاستقرار الإقليمي رهينة لتوازنات خارجية متقلبة.
السيناريو الثالث: تفكك الدولة وتعدد مراكز السلطة
وهو أخطر السيناريوهات، حيث يؤدي استمرار الانقسام إلى تآكل الدولة المركزية وظهور كيانات أمر واقع، ما يفتح الباب أمام نزاعات داخلية طويلة الأمد. في هذه الحالة، يتحول السودان إلى مصدر دائم لعدم الاستقرار، وتتعاظم المخاطر الأمنية والاقتصادية على دول الجوار، مع اتساع رقعة الفوضى العابرة للحدود.
في ضوء هذه السيناريوهات، يتضح أن استقرار السودان لم يعد مسألة مؤجلة، بل خيارًا استراتيجيًا لا بديل عنه. فالدول المعنية بأمن البحر الأحمر والمنطقة الأفرو-عربية باتت أمام اختبار حقيقي: إما الاستثمار في تسوية سياسية مستدامة تُنهي الحرب وتعيد بناء الدولة، أو القبول بكلفة طويلة الأمد من الفوضى وعدم اليقين.
ختامًا، فإن مستقبل السودان السياسي سيُحسم عند نقطة التقاء الداخل بالخارج، بين قدرة القوى الوطنية على إنتاج مشروع دولة، وبين استعداد الإقليم والمجتمع الدولي للانتقال من إدارة الأزمة إلى حلّها جذريًا. فاستقرار السودان ليس نهاية صراع محلي فحسب، بل بداية إعادة تشكيل توازنات إقليمية أكثر أمنًا واستدامة.
في ضوء ما سبق، يصبح واضحًا أن التعامل مع الأزمة السودانية لم يعد يحتمل مقاربات جزئية أو حلولًا مؤقتة تقوم على إدارة الصراع بدل إنهائه. وعليه، فإن الانتقال نحو الاستقرار يتطلب تبني حزمة من التوصيات الاستراتيجية على المستويين الإقليمي والدولي، بالتوازي مع مسؤولية داخلية سودانية:
، التوصيات الاستراتيجية:
الانتقال من إدارة الأزمة إلى حلّها جذريًا، عبر تبني مسار سياسي ملزم يُنهي الحرب، بدل الاكتفاء بمبادرات تهدئة مؤقتة لا تعالج جذور الصراع.
توحيد الموقف الإقليمي لدول البحر الأحمر والمحور الأفرو-عربي تجاه السودان، بما يحدّ من تضارب الأجندات، ويعزز مقاربة جماعية تعتبر استقرار السودان جزءًا من الأمن الإقليمي المشترك.
ربط الدعم الدولي والإقليمي بضمانات تنفيذية واضحة، تشمل آليات متابعة وضغط، تضمن الالتزام بالاتفاقات السياسية ومنع الانزلاق مجددًا نحو العنف.
إعادة توجيه المساعدات من الطابع الإنساني المؤقت إلى بناء الدولة، عبر دعم مؤسسات الحكم، وتفكيك اقتصاد الحرب، واستعادة سيطرة الدولة على الموارد والسلاح.
دعم عملية سياسية سودانية شاملة لا تقوم على الإقصاء، وتعيد الاعتبار للدولة الوطنية، وتؤسس لشرعية مدنية قادرة على إدارة التنوع السياسي والاجتماعي.
تحصين السودان ضمن منظومة أمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي، من خلال آليات تعاون أمني واقتصادي تقلل فرص التدخلات الخارجية وتدويل الصراع.
الاستثمار في استقرار السودان كخيار استراتيجي طويل الأمد، باعتباره أقل كلفة من استمرار الفوضى، وأكثر جدوى للأمن والتنمية في الإقليم بأسره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى