
الإرث الثقافي من أهم الموروثات الإنسانية للمجتمعات.. وهو مصدر للتفاخر والتميُّز بين مجتمعٍ وآخر. فالثقافة هي سلوك وعادات وتقاليد وقِيَم المجتمع وحضارته وتطورها عبر التاريخ…
وقد فرض علينا المستعمر الإنجليزي في القرن الماضي ثقافته في مختلف أوجه الحياة… حيث أصبحنا نتفاخر باللبس والهندام الإنجليزي، وأصبح اللبس الإفرنجي مقياسًا للمثقف والمتعلِّم في ذلك الزمن. حتى الفن والغناء تَحدَّث عن ذلك، كما في أغنيات البنات: (ياماشي لي باريس جيب لي معاك عريس شرطاً يكون لبيس…) وهنا تُقصد البنطلون والقميص والبدلة الإفرنجية [كلمة “إفرنجي” من “فرنجة” أي أوروبي]!!!! وحتمًا لا تُقصد الجلابية والصديري والمركوب (الزي الوطني والموروث الثقافي المُجْنَى عليه في هذا البلد!!!).
وكذلك ظهرت الثقافة الاستعمارية في لغة الحوار والمخاطبة، فأصبح مَن يُدخل المفردات الإنجليزية في حديثه “مُثقَّفًا”.. وظهرت في صناعة الطعام وطريقة تقديمه.. فعرفنا الخبز الأبيض، وأُدخِلت بعض الأطعمة في وجباتنا.. كما ظهرت الثقافة الاستعمارية الإنجليزية في وسائل ركوبنا ومواصلاتنا، فظهرت العربة الخشبية التي يقودها الحصان (“كُرَّة”)، ثم ظهرت “الفيت” وتغنى لها الفنان حسن عطية (يا السايق الفيت) وغيرها من ماركات العربات الحديثة في ذلك القرن…
ثم شملت طريقة العمران وبناء المنازل، إلخ… وكل ذلك كان له إيجابياته على مجتمعنا، لكن سلبياته تمثلت في أنه دَثَر أعظم حضارةٍ لهذا الشعب عرفها الإنسان قبل الميلاد: الحضارة المروية الفرعونية التي ربما لو بذَل إنسان هذا الشعب جهدًا مُقدَّرًا، ولم يُفرَض عليه المستعمر ثقافته، لطوَّرها وأصبح يُشار لها بالبنان، ولأصبحت مصدرًا للدخل القومي عبر السياحة… ولما سُرقت منه!!!
وها هي اليوم تتكرر مشكلة أخرى لهذا الجيل، الذي بدأ بعد ثورة ديسمبر المجيدة (2018) يبحث عن موروثه الثقافي ليطوِّره ويُثبت للعالم أننا أصحاب أقدم حضارة إنسانية قبل الميلاد… اندلعت حرب (ثلاثة وعشرين) ويومًا بعد يومٍ فُرِضَت ثقافة الحرب على هذا الجيل.
فعندما كنا في السابق لا نرى المدرعات العسكرية ورُتب الضباط والجنود إلا في التلفاز أو احتفالات الاستقلال أو الطابور العسكري لعيد الجيش أو تخريج دفعة من الكلية الحربية، أصبحت اليوم العربات القتالية بكل مسمياتها منتشرة في الشوارع العامة… وتحت الأشجار! بل أصبح الأطفال في مناطق الصراع المسلح يلعبون جنبًا إلى جنب مع العربات القتالية بينهم، وأصبح صوت الرصاص محلًّا لصوت المذياع.. بل لصوت السماعات الحديثة في الأسواق العامة وهي تُغرِّد بأغاني الحقيبة الخالدة… والأغنية الحديثة.. وأغاني الروب المعاصر. أصبح صوت الرصاص مميزًا حتى لأطفالنا الذين لم يسمعوه إلا في أفلام الأكشن التلفزيونية؛ فثقافة صوت الرصاص اليوم ثقافة حربية: أصبحوا يميزون بين صوت وآخر من الأسلحة القتالية، ويتباهون بتلك المعرفة!
بل أصبحت لغة حوارهم و(الرَّنْدُوق) هي مُسميات الأسلحة وأصواتها!!!
وحتى تطبيقات الألعاب في هواتفهم أصبحت ألعابًا لمهام حربية وصراعات قتالية… وقَصَروا النظر عن ألعاب الترفيه والألعاب التعليمية… أصبح جمع الفارغ من الرصاص لُعبتهم بعد أن كانوا يجمعون الحصى و(البِلِّي)! وبعد أن كانوا يلعبون الكرة في الميادين..
أصبحت مسميات الأمراض بأسماء الأسلحة: فعرفنا أن الحشرة التي تَقْرص وتترك آثارًا تُشوِّه الجلد تُعرَف بـ(المُسَيِّرة)، وأن حبوب الملاريا تُعرَف بـ(الراجمات)! وأن مَن يكيد للآخر يُسمَّى (بالبُس)!
وأيضًا فرضت هذه الحرب ثقافة إيجابية على هذا الجيل بجانب السلبيات: فبعد أن أُغلِقت المدارس والجامعات… فُتِحَت الخلاوي للصغار لتحفيظ القرآن، وذهب الكبار للعمل في قرى الجزيرة مع ذويهم في الحواشات الزراعية… كما امتهن الشباب -الذين تَعطَّلت دراستهم- بيعَ السلع بل وحتى الطعام والشراب في الشوارع. وبعد أن كان يُصرَف عليهم، أصبحوا يُصرِفون على أنفسهم وأسرهم.
فرضت الحرب ثقافة العودة إلى وسائل مواصلات القرن الماضي: فبعد تعاملنا مع موديلات الألفية الثالثة من العربات، رجعنا نتعامل مع “كارو” (الحصان والحمار) أعزَّكم الله!
ورجَعنا لثقافة البيع في القرن الماضي: ففرش التجار بضائعهم أرضًا في أسواق الأحياء السكنية؛ لأن لا وسيلة للوصول للأسواق الكبيرة، ولأن سعر مشوار الكارو قد يُوفر لك تموين شهرٍ من السلع الاستهلاكية!
فرضت الحرب ثقافتها على مناسباتنا (في الأغلب الأعم: الوفيات) حيث ينتهي العزاء بمراسم الدفن؛ فكل الأهل والأقارب نازحون أو لاجئون، وربما أسرة المُرحوم نفسها!!!
أما الأفراح فنادرًا ما تقع إلا قليلًا، وحسب المَثل السوداني (المُبْدِي بنتم)، فيتم بأبسط تكلفة تصل أحيانًا للاكتفاء بإعلان عقد القران فقط…
وأجمل ما فرضته علينا ثقافة الحرب هو الإحساس بالآخر: الجيران والأحباب والأقارب. فَرَجَعنا لمنظومة التكافل الاجتماعي الإنساني.. وتبادلنا لقمة العيش والسلع الاستهلاكية.. وأصبح الصحن الواحد “بِيكْفِي مية”… والغرفة الواحدة “بِتِسَع الجميع” خاصة إن كانت متينة وكانت الطائرات الحربية (الحوامة) تُحلِّق في سماء منطقة الصراع!
ومن ثقافة الحرب أصبح الجميع في دوامة البحث عن الرزق، ولا مجال لشيء آخر… حتى النساء أصبحن بعيدات كل البعد عن التسوُّق وصالونات التجميل؛ فلا مال… ولا وقت فراغ لهن ولا زيارات. بل كل وقتهن لمهام البيت؛ حيث انعدمت وسائل رغد العيش و(الخدم والحشم)… فالكل يخدم نفسه، ويردد “الباقيات الصالحات” ليكون له القوة على إكمال خدمة البيت.. حيث رجعنا للعمل بالحطب والفحم والوسائل التقليدية في كل مهام البيت. فتلك حياة الحرب…
وبالرغم من كل ذلك، نجد أن ثقافة الحرب وإن فُرضت علينا هي تجربة لها وجه آخر كله خير وإيجابيات إن وعينا الدرس!!!
—
من سلسلة: إيجابيات وسلبيات الحرب #[9]