راي

شيء للوطن ــ م.صلاح غريبة Ghariba2013@gmail.com ــ قاعدة بورتسودان: الشائعات المؤجلة وحقيقة “الصفقة الراقدة” ــ بعانخي برس

بعانخي برس

 

 

 

شهد المشهد الإعلامي مؤخراً موجة من التكهنات المثيرة، مصدرها تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، حول “عرض سوداني حديث” لإحياء مشروع إنشاء قاعدة بحرية روسية على البحر الأحمر في الأراضي السودانية. غير أن تأكيد السفير الروسي لدى السودان، أندريه تشيرنوفول، لوكالة “تاس” الروسية، جاء ليضع حداً لهذه الضجة، مُعيداً الملف إلى درج “الانتظار” ومُشدداً على أن “لا توجد أي تطورات جديدة”.
هذا النفي الروسي القاطع لا يُلغي القضية، بل يُعيد تسليط الضوء على جوهرها الحقيقي: اتفاقية 2020 الأصلية التي وُقّعت بالفعل، ولا تزال تنتظر “التصديق الرسمي” من الجانب السوداني. مشروع القاعدة البحرية في بورتسودان، إذن، ليس شائعة جديدة، بل “صفقة راقدة” تحمل في طياتها توازنات إقليمية ودولية معقدة.
الاتفاقية، التي تم توقيعها في أواخر عام 2020، كانت بين روسيا وقيادة الحكومة الانتقالية المدنية-العسكرية في السودان آنذاك. وقد هدفت إلى إنشاء مركز دعم لوجستي وتقني في ميناء بورتسودان، وليس بالضرورة قاعدة عسكرية مكتملة الأركان بالمعنى التقليدي.
الأهداف المعلنة، توفير تسهيلات لإصلاح السفن، وتخزين الإمدادات، وراحة أفراد الأسطول البحري الروسي، والمدة والقيود، يُفترض أن تكون الاتفاقية سارية لمدة 25 عاماً مع التجديد التلقائي، وتسمح بوجود أربع سفن حربية روسية في الميناء في وقت واحد، بما في ذلك السفن التي تعمل بالطاقة النووية (مع مراعاة قواعد السلامة الدولية). كما ستسمح بتواجد 300 فرد عسكري ومدني روسي، والمقابل السوداني سيحصل السودان على حزمة من الأسلحة والمعدات العسكرية الروسية لتعزيز قدراتها الدفاعية.
بالنسبة لموسكو، يُمثل هذا المشروع موطئ قدم استراتيجي حيوي في البحر الأحمر، الشريان التجاري الأهم عالمياً، ومحاولة لتوسيع نفوذها في القارة الأفريقية، مُتحديةً بذلك الوجود الغربي والصيني المتزايد.
عندما تم الكشف عن تفاصيل الاتفاقية في عام 2020، أثارت على الفور موجة من ردود الفعل الدولية القلقة، خصوصاً من القوى التي تعتبر البحر الأحمر منطقة نفوذ حيوية لها، فكان القلق الأمريكي هو الأبرز، حيث يرى البنتاغون أن إنشاء قاعدة روسية على بعد مئات الكيلومترات فقط من قاعدة كامب ليمونييه الأمريكية في جيبوتي يُمثل تحدياً مباشراً للأمن الإقليمي وتوازنات القوى. وقد ربط محللون بين تأخر التصديق على الاتفاقية والضغوط الأمريكية والدولية على الحكومة السودانية السابقة (قبل الحرب).
القوى الإقليمية (مصر والمملكة العربية السعودية) والدول المطلة على البحر الأحمر تنظر بعين الريبة لأي توسع عسكري لقوى خارجية. فكلاهما يرغب في الحفاظ على أمن الملاحة واستقرار المنطقة، وتعتبر أن أي قاعدة عسكرية دائمة لقوة عظمى غير إقليمية عاملاً قد يُزعزع هذا الاستقرار أو يزيد من التنافس الجيوسياسي على تخوم حدودهما.
التوتر الداخلي السوداني، حيث كانت الاتفاقية نفسها سبباً للجدل داخل السودان. معارضو المشروع يخشون من جر البلاد إلى صراعات القوى العظمى، بينما يرى مؤيدوه (خاصة داخل المؤسسة العسكرية) أنها فرصة لتعزيز القوة الدفاعية السودانية وكسر العزلة الدولية.
ما يجعل شائعة “العرض الحديث” جذابة إعلامياً هو الظرف الراهن. في ظل الحرب المدمرة التي يشهدها السودان بين القوات المسلحة والدعم السريع، أصبحت حاجة الجيش السوداني (الذي يُمثل الآن الجانب المُسيطر رسمياً على الدولة) إلى الدعم العسكري واللوجستي الروسي أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
الجيش السوداني يسعى جاهداً لتأمين مصادر تسليح جديدة بعد توقف شبه كامل للتعاون الغربي، والملف الروسي يُمثل الشريك التاريخي والأكثر استعداداً لتلبية هذه الحاجة مقابل خدمة استراتيجية بحرية. من هذا المنطلق، تصبح محاولة إحياء اتفاقية 2020، سواء عبر “عرض حديث” أو بجهود دبلوماسية مُكثفة، خطوة منطقية من منظور المصلحة الذاتية لقيادة الجيش السوداني.
إن نفي السفير الروسي أندريه تشيرنوفول لا يُغلق الملف، بل يضعه على “الرف الاحتياطي” في انتظار اللحظة المناسبة. طالما أن الاتفاقية الأصلية مُوقعة ومُتاحة، وتنتظر فقط “التصديق”، فإنها تظل قنبلة جيوسياسية موقوتة.
في ظل التنافس المتزايد على أفريقيا وسواحلها الاستراتيجية، تُمثل قاعدة بورتسودان المحتملة لروسيا ورقة ضغط هائلة في يد الخرطوم. الرهان الآن هو متى وكيف، وليس ما إذا كان، سيتم استخدام هذه الورقة لتحقيق مكاسب في ميزان القوة الداخلي والخارجي للسودان الغارق في صراعه. هذه “الصفقة الراقدة” هي تذكرة دائمة بأن السودان لا يزال ساحة جيوسياسية، وأن مصيره مُتشابك بشكل وثيق مع طموحات القوى العظمى على شواطئ البحر الأحمر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى