راي

شاهيناز القرشي تكتب .. من سيضرب السودان – بعانخي برس

بعانخي برس

 

 

 

 

الوضع العالمي المعقد يتجه لمزيد من التعقيد على عكس الذي ينتظره الناس ولهذه التعقيدات تأثيراتها على السودان بشكل مباشر أو غير مباشر لنستعرض ما يحدث في العالم لنرى أين نحن.

تسببت حرب غزة في غياب أخبار الحرب الروسية الأوكرانية عن واجهة الأخبار خصوصاً في المنطقة العربية مع إنها الفاعل الرئيسي في أحداث اليوم وما يحسب حسابه في الاقتصاد العالمي والأمن الغذائي والانتخابات الأمريكية، فروسيا تحشد لمواجهة الربيع المتوقعة بينها وبين أوكرانيا، والمخابرات الأوروبية والأمريكية تتحدث عن تحشيد روسي واستعداد عسكري عظيم، وتحذر من تخاذل أوروبي أمريكي ربما يؤدي إلى هزيمة أوكرانيا، وفرض شروط روسيا على أوكرانيا، وحينها ستتمدد روسيا حتى دول البلطيق وتهدد الأمن الأوروبي بشكل كامل، أوروبا التي لم توفي بتعهداتها السابقة كاملة لأوكرانيا تجد نفسها الآن بين الدفع والدعم أو التهديد.

أمّا عن أمريكا فقد أقرّت قانون بالأمس القريب لدعم أوكرانيا وإسرائيل ب 118 مليار دولار، وهذا القانون قد تعثر في الكونغرس بسبب النواب الجمهوريين الذين يعتقدون أن دعم أوكرانيا هو عبء إضافي ويجب أن تتغير طريقة التعامل مع روسيا كما فعل ترامب مما اضطر إدارة بايدن للعب لعبة الحدود في ولاية تكساس لتقايض الجمهوريين بمنحهم التعديلات على قانون الهجرة ودعم العمليات الأمنية في الحدود ب 20 مليار دولار مقابل منح أوكرانيا 60 مليار دولار. الجمهوريين يهمهم فرض سيطرة قوية على الحدود والابقاء على السياج في تكساس والديمقراطيون يهمهم إقرار المساعدات لأوكرانيا اما المساعدات لإسرائيل لا خلاف عليها وهذا يرجع لحسابات تخص الانتخابات في نوفمبر القادم.

السياسة الأمريكية التي تقايض داخلياً تعمل بنفس المبدأ خارجياً فمثلاً في الأحداث المرتبطة بحرب غزة عندما هدد الحوثي أمن البحر الأحمر وأعلن أنه سيضرب كل سفينة تتبع لإسرائيل أو حتى تحمل بضائع لها، تحركت أمريكا وبريطانيا وبهجمات صاروخية ضربت مواقع حوثية وقالت إنها دمرت 30% من مقدرات الحوثي الصاروخية، لنُقيم ما فعله الحوثي نجد أنه لم يغرق ولا سفينة، أكبر انتصاراته كانت في السيطرة على سفينة إسرائيلية واحتجازها ونُقيم ما فعلته الضربات الأمريكية البريطانية التي كانت معلنة مما مكن الحوثي من نقل أهم أسلحته إلى مواقع جديدة وحافظ عليها، واكتفت أمريكا وبريطانيا بهذه الضربات والتي وجهت اليها الانتقادات حتى من حلفائها كالسعودية.

السؤال هو لماذا ضربت أمريكا الحوثي ولماذا لم تقضي عليه بشكل كامل وهي قادرة على ذلك؟

الحوثي هو ذراع إيران في جنوب شبه الجزيرة العربية ولدى إيران تاريخ من الصراع مع دول الخليج النفطية الثرية. اذاً ايران تلعب دور المكبل لدول الخليج و تلزمها بمسار التحالف مع أمريكا مما يجعل السيطرة الأمريكية على كثير من السياسات في المنطقة مبررة بمبدأ المقايضة (التبعية مقابل الحماية )، اذاً لو قامت أمريكا بتدمير الحوثي فقد نزعت عن خاصرة السعودية واليمن شوكة إيران وهي التي رفضت سابقاً تزويد الطائرات السعودية بالوقود في الجو وأوقفت اقتحام مدينة الحديدة من قبل القوات الشرعية في اليمن والتي كان من الممكن أن تتسبب في ضربة قاضية للحوثي وتقلص مناطق سيطرته على غرب اليمن، وفرضت أمريكا محادثات سلام في ستكهولم توصلت إلى معاهدة حوت عدة بنود لم ينفذ منها الّا إيقاف الهجوم على المدينة، والآن بعد أن أصبحت السعودية تتجه لعقد اتفاق سلام مع الحوثيين في مسقط والذين قد بلغوا أشد حالات الضعف المالي والإداري في مناطق سيطرتهم، وكذلك هدأت الأوضاع بشكل كبير مع إيران وبدأت العلاقات الدبلوماسية في العودة وجاءت أحداث غزة لتوقف هذه المحادثات و استغل الحوثي الحرب ليصنع لنفسه مجداً في اليمن ومجداً في المنطقة، ويخرس كل الأصوات المعارضة له بحجة: أنا احارب إسرائيل أنا احارب أمريكا واذا عاد للمفاوضات سيعود بروح جديدة تختلف عن روح الحكومة المفلسة التي تصرف لموظفيها سلال الغذاء التي تأتي من المنظمات بدلاً عن الرواتب، لذلك ليس من مصلحة أمريكا القضاء على الحوثي الذي سيحرر الخليج من مقايضة أمريكا وفي ذات الوقت تريد إعلامه أنّ امريكا موجوده فلا تغتر .

ما يحدث في البحر الأحمر وتحديداً في باب المندب تتضرر منه أمريكا والصين تجارياً، وتعبر 12% من تجارة الصين عبر باب المندب مروراً بكل الدول على سواحل البحر الأحمر بما فيها إسرائيل وصولاً إلى أوروبا عبر قناة السويس وعلى الرغم من أنّ الحوثي أعلن أنه لن يمس أية سفينة لا ترتبط بالكيان الإسرائيلي، وقدم وعوداً للصين أنّ سفنها لن تُضّرب، الّا أنّ الصين أعلنت توقف عبور رحلاتها من باب المندب واتجهت للمرور عبر رأس الرجاء الصالح مع أنّ الرحلة تطول حوالي عشرة أيام إضافية، وتزيد تكلفة الوقود. وبررت الصين ذلك بارتفاع تكلفة التامين على السفن وأعلنت كذلك شركة كوسكو الصينية توقف شحناتها إلى إسرائيل وتحديداً ميناء حيفا، مما أربك الداخل الإسرائيلي الذي يعتمد على الميناء بشكل كبير وتعد شركة كوسكو هي مشغله الأبرز بحصة بلغت 88% ومع خروج الموانئ الإسرائيلية من الخدمة بسبب حرب غزة وتهديدات البحر الأحمر يعتبر ميناء حيفا بمشغله الصيني هو آخر منافذها القادرة على سد الحاجات الإسرائيلية ولكن إسرائيل هي ذراع امريكي كما الحوثي الذراع الإيراني، وهنا فاضلت الصين بين خسارتها المادية أو إضعاف الذراع الأمريكي، ففضلت أن تساند حليفها الإيراني فإسرائيل كتجارة وكبلد لا تمثل للتنين الصيني شيء يذكر.

ويجب أن نشير إلى ضرب القاعدة الأمريكية في الحدود السورية الأردنية التي أسفرت عن مقتل ثلاث جنود أمريكان وجرح 34 وأعلنت أمريكا أن من نفذ هذه الهجمات هي مليشيات إسلامية مدعومة من إيران وسارعت بالرد وضربت الحشد الشعبي في العراق ومواقع في سوريا تتبع لمليشيات إيرانية وقتل 34 شخص وجرح 25 جراء هذا الهجوم.

كل ما ذكرته سابقاً ما هو الّا نماذج لتوضيح أنّ روسيا وأمريكا تخوضان حرب خارجهما ليكون لها أثر على الاقتصاد والبشر والأمن في البلدين، ولكن بشكل غير مباشر فموقع بلدك من القوتين يحدد من سيضربك وذلك قبل المواجهة الربيعية بين أوكرانيا وروسيا.
السودان الذي تتصارع حوله القوتين ولازال غير مستقر لأحدهما على الرغم من وضوح ميل الجيش إلى روسيا ومحاولة الدعم السريع التودد للمؤسسات التي تميل إلى المحور الغربي ولكنه أيضاً لم يخسر روسيا وفي الأيام القادمة ستتوضح المواقف بشكل كبير مما سيدفع كل طرف لتحديد معسكره والحكومة السودانية التي تسيطر على الموانيء وشاطئ البحر الأحمر موقفها الأخير سيكون له أثر خطير على مجريات الحرب في السودان، فاذا مالت لروسيا مع اضطرابات البحر الأحمر وتهديدات الحوثي الذي لم تصل صواريخه إلى العمق الإسرائيلي ولكنها هددت ايلات وذلك لبعد المسافة التي يجب أن يقطعها الصاروخ، ولكن ماذا لو انطلقت هذه الصواريخ البالستية من ميناء بورتسودان ومرتفعات البحر الاحمر؟ ستقصر المسافة وتصبح كل إسرائيل في المدى الصاروخي.

اذاً انضمام السودان لأذرع روسيا في هذا التوقيت سيشكل تهديد خطير لإسرائيل وحينها ستدخل الحسابات الأمريكية في المعادلة ولا أعتقد أنّ هنالك مصلحة لأمريكا في انضمام السودان لروسيا تكافئ خسارة أمن إسرائيل، وحتى سلاح الجو الإسرائيلي لديه القدرة على شن ضربات تدمر الموانئ السودانية، وبرهان الذي حاول تحسين العلاقات السودانية الإسرائيلية محاط الآن بالإسلاميين الذين لن يتورعوا عن الدخول كطرف في الحرب لمساندة حماس، واذا حدث هذا الامر سيدفع السودان الثمن غالياً، وربما تدعم أمريكا مليشيا الدعم السريع بشكل يفوق كل التوقعات، بينما إذا انضم السودان للأذرع الأمريكية لن يخسر الكثير كبلد، ولكن من سيخسر هم جماعة الإخوان المسلمين، فقد تغيرت الأدوات الأمريكية لتنفيذ الاستراتيجية في السودان، واعتقد أن الدور الذي يجب أن يلعبه السودان في منطقة القرن الإفريقي والمنطقة العربية في منظور المخطط الأمريكي قد تبدل وإذا لم تستفد أمريكا من السودان كما تخطط لن تترك غيرها يستفد منه ولا حتى المواطن السوداني .

لأمريكا استراتيجية قديمة تتمثل في وضع الدول التي يمكن أن تنافسها في اضطرابات وضغوطات إقليميه تمنعها من التفرغ للمنافسة، وهذه اللعبة تلعبها كل دول العالم مع جيرانها، أو الدول التي يمكن أن تأثر عليها في الإقليم ولكن الفرق أن أمريكا تلعبها على مستوى اكبر وبأدوات اخطر وتشمل كل العالم ، وتسمح أمريكا للاعبين بالتحرك إذا كان تحركهم يضر بشكل تكتيكي ولكن لا تسمح بتحرك يهدم الاستراتيجية أو يخلخل قواعدها، وهذا ينطبق حتى على الدول الكبرى فالصين تغض مضجعها تايوان ويضغطها سيطرة أمريكا على خليج ملقا الذي تعبر منه 80% من التجارة الصينية وهذه السيطرة ليست من فراغ بل عبر اسطول بحري عسكري يمتلك إحدى عشر حاملة للطائرات وآلاف القطع البحرية الحربية بينما تمتلك الصين حاملة طائرات واحده ، وتزعج روسيا عبر محيطها ودفعت بها للدخول في حرب وجود واستنزاف، إيران التي دخلت في حرب مع العراق وعداء مع الخليج ومشغولة بدعم أذرعها في المنطقة كل هذا يقع داخل الاستراتيجية الامريكية،

وكذلك الوجود والأمن الإسرائيلي استراتيجي بالنسبة لأمريكا. وفي خلال أيام ستحل الذكري الثانية لبداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، وأعتقد في نفس الأيام ستشتعل الجبهات ولن تتخلى أمريكا وأوروبا عن أوكرانيا وستدفع الكثير لتحافظ على الإستراتيجية، بالتأكيد هنالك احتمال لأن لا يكون الربيع ساخن كما تحسب المخابرات وذلك بسبب الفارق بين ما تطلقه القوتين من الذخائر وبين ما تنتجه مصانعهم حسب اقصى طاقة لها، ومن سيتخطى هذه العقبة ربما يستطيع أن يحقق تقدم على الأرض ولكنه ليس كافي للانعتاق. فالخروج من الاستراتيجية الأمريكية العالمية التي تتمتع بمرونة مدهشة، يتطلب عمل جماعي مضني يمتد لعشرات السنين لخلق قطب واحد على الأقل قادر على صنع التوازن، ومن يجعجع في المنصات داعياً الجماهير لرفض هيمنة دول الاستكبار، لا يعلم عن مدى استكبارهم شيئاً، ولن يصنع استراتيجية الخروج، فأمريكا لم تسيطر بالهتاف والمشاعر الجياشة بل بالعمل والعمل الجاد جداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى