راي

شئ للوطن ــ م.صلاح غريبة – مصر ــ Ghariba2013@gmail.com ــ براءةٌ مُدنَّاة: صرخات أطفال الحروب في اليوم الدولي لضحايا العدوان ــ بعانخي برس

بعانخي برس

 

 

 

في الرابع من يونيو من كل عام، يرتفع صوتٌ عالميٌ مدوٍّ ليذكّرنا بحقيقةٍ قاسيةٍ ومؤلمة: ملايين الأطفال ليسوا مجرد متفرجين في النزاعات المسلحة، بل هم أهدافٌ، كما وصفت غراسا ماشيل، خبيرة الأمم المتحدة. إنه اليوم الدولي لضحايا العدوان من الأطفال الأبرياء، مناسبةٌ لتسليط الضوء على الآثار المدمّرة للحرب على البراءة، وصرخةٌ مدويةٌ بضرورة حماية هؤلاء الصغار الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وُلدوا في زمنٍ تتقاتل فيه الكبار.
الأطفال، دون الثامنة عشرة، هم الشريحة الأكثر ضعفاً في أي مجتمع، وعندما تندلع الصراعات المسلحة، يكونون الأكثر تضرراً. لا يقتصر الأثر المدمر للحروب على الإصابات الجسدية المباشرة، بل يمتد ليشمل ستة انتهاكات شائعة، تتراوح بين تجنيدهم واستخدامهم في القتال، والقتل والعنف الجنسي، والاختطاف، والهجمات على المدارس والمستشفيات، وصولاً إلى حرمانهم من أبسط حقوقهم في الوصول إلى المساعدات الإنسانية. هذه الانتهاكات ليست مجرد أرقام في تقارير، بل هي قصصٌ حقيقيةٌ لأرواحٍ صغيرةٍ تُسحق، وتُسلب منها طفولتها وحقها في مستقبلٍ آمن.
وفي خضم هذه المعاناة العالمية، لا يمكننا أن نغفل عن أطفال السودان، الذين يدفعون ثمناً باهظاً لصراعٍ وتمرد من مليشيات الدعم السريع لا ذنب لهم فيه. لقد تحولت حياتهم الهانئة، التي كانت يوماً ما ملأى باللعب والضحك، إلى كابوسٍ من الخوف والنزوح والجوع. تُجبر عائلاتٌ بأكملها على ترك منازلها وممتلكاتها، ليجد الأطفال أنفسهم في نزوح لمناطق ومدن لم يزورها سابقا، وحتى لم يسمعوا بها، أو اللجوء لدول الجوار، او العيش في معسكرات ومخيماتٍ تفتقر لأدنى مقومات الحياة الكريمة، معرضين للأمراض وسوء التغذية والاغتراب ، والأهم من ذلك، لحالةٍ نفسيةٍ مهزوزةٍ بفعل مشاهد العنف والخسارة التي عايشوها. إن قصص أطفال السودان، الذين يحلمون بالعودة إلى بيوتهم ومدارسهم، هي شهادةٌ حيةٌ على وحشية الحروب وتأثيرها على البراءة.
من أبشع صور استغلال الأطفال في الحروب هي تجنيدهم واستنفارهم في النزاعات المسلحة. إن رؤية أطفالٍ يحملون السلاح بدلاً من الألعاب، ويرتدون الزي العسكري بدلاً من ملابس المدرسة، هي انتهاكٌ صارخٌ لكل المواثيق الدولية والقيم الإنسانية. يتم استغلال ضعفهم وحاجتهم أحياناً، ويُجبرون على ارتكاب أعمالٍ تتجاوز قدرة عقولهم وقلوبهم الصغيرة على استيعابها. إن تجنيد الأطفال ليس فقط سلبًا لطفولتهم، بل هو تدميرٌ لمستقبلهم، وزرعٌ لبذور العنف والكراهية في نفوسهم. يجب على المجتمع الدولي أن يقف وقفة حازمة ضد هذه الجريمة، وأن يعمل على محاسبة كل من يرتكبها.
معاناة أطفال الحروب لا تقتصر على الجانب المادي، بل تمتد لتشمل الجانب النفسي الذي قد يترك آثاراً عميقةً تستمر مدى الحياة. فالصدمات النفسية الناتجة عن مشاهد العنف، وفقدان الأحباء، والنزوح القسري، قد تؤدي إلى اضطراباتٍ نفسيةٍ خطيرةٍ مثل الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة. لذا، فإن توفير الدعم النفسي المتخصص لهؤلاء الأطفال ليس ترفاً، بل هو ضرورةٌ ملحةٌ لتمكينهم من تجاوز هذه المحنة، والتعافي من الجروح الخفية، وإعادة بناء حياتهم. يجب أن تتضافر الجهود لتوفير أماكن آمنة للأطفال، ومراكز للدعم النفسي، وبرامج للتعليم والترفيه، لتعيد لهم شيئاً من الأمل والطمأنينة.
تتضاعف معاناة أطفال الحروب عندما يصبحون نازحين أو لاجئين. يجدون أنفسهم في رحلةٍ مجهولةٍ، محاطين بالغريب، بعيدين عن كل ما هو مألوف لهم. يعيشون في حالةٍ من عدم اليقين المستمر، معلقين بين الأمل في العودة إلى وطنهم وبين واقع اللجوء الصعب. في مخيمات اللجوء، يواجهون تحدياتٍ جسيمةً تشمل نقص المياه والغذاء والمأوى، بالإضافة إلى خطر الأمراض والاستغلال. تفقد العديد من الأطفال فرصتهم في التعليم، ويُحرمون من أبسط حقوقهم في اللعب والنمو في بيئةٍ آمنةٍ. إن تزايد أعداد الأطفال النازحين واللاجئين في السنوات الأخيرة يستدعي تحركاً دولياً عاجلاً لتوفير الحماية والمساعدة لهم، وابتكار حلولٍ دائمةٍ لأزمتهم.
إن الاهتمام الدولي بقضية أطفال الحروب ليس وليد اللحظة. فمنذ عام 1982، عندما أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عن العدد الكبير من الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين الأبرياء ضحايا العدوان الإسرائيلي، أدركت الأمم المتحدة حجم هذه المعاناة وأهمية حماية حقوق الأطفال. اتفاقية حقوق الطفل، وهي من أكثر المعاهدات الدولية تصديقاً، تشكل الإطار القانوني الأساسي لهذه الحماية.
وقبل نحو 20 عاماً، كان تقرير غراسا ماشيل الرائد نقطة تحولٍ مهمةٍ، حيث لفت الانتباه العالمي إلى الأثر المدمر للنزاعات المسلحة على الأطفال. نتج عن ذلك القرار 51/ 77 الذي شكل توافقاً جديداً في الآراء بين الدول الأعضاء بشأن الحاجة إلى اهتمامٍ ودعوةٍ وجهود تنسيقٍ لمواجهة ضعف الأطفال وانتهاكاتهم في حالات الصراع. كما أنشأ ولاية الممثل الخاص للأمين العام المعني بالأطفال والصراع المسلح، مما يدل على التزامٍ جادٍ من قبل الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من التقدم الذي أحرز، حيث شهدت المعايير الدولية لحماية الأطفال تطوراً، وتضمنت جداول أعمال مجلس الأمن والجمعية العامة هذه القضية كأولوية، إلا أن التحديات لا تزال قائمة. فخلال السنوات الأخيرة، زاد عدد الانتهاكات المرتكبة ضد الأطفال في العديد من مناطق الصراع، مما يستدعي بذل المزيد من الجهود لحماية 250 مليون طفل يعيشون في مناطق متأثرة بالنزاع.
تأتي خطة التنمية المستدامة لعام 2030 لتوفر مخططاً عالمياً لضمان مستقبل أفضل للأطفال، حيث حددت لأول مرة هدفاً محدداً لإنهاء جميع أشكال العنف ضد الأطفال، وإنهاء الإساءة لهم وإهمالهم واستغلالهم. هذا الهدف، الذي سيندمج في العديد من الأهداف الأخرى المتعلقة بالعنف، يمثل بارقة أملٍ لمستقبلٍ يتمتع فيه كل طفلٍ بطفولته، بعيداً عن أهوال الحروب.
في اليوم الدولي لضحايا العدوان من الأطفال الأبرياء، نجدد التزامنا بالعمل من أجل عالمٍ لا تُسلب فيه الطفولة بسبب الصراعات. يجب أن تتضافر جهود الحكومات، والمنظمات الدولية، والمجتمعات المدنية، والأفراد، لوقف نزيف البراءة، وحماية هؤلاء الصغار، وتقديم الدعم اللازم لهم ليتمكنوا من بناء مستقبلٍ مشرقٍ، بعيداً عن شبح الحرب وويلاتها. فبراءة الأطفال هي أغلى ما نملك، وحمايتها مسؤوليتنا جميعاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى