أ. طارق عبداللطيف ابوعكرمة يكتب .. المتحف المصري الكبير: ذاكرة تنهض من الصمت ــ بعانخي برس
بعانخي برس
في زمنٍ يتسارع فيه النسيان، وتبهت فيه القيم تحت وطأة الضجيج، تنهض مصر من أعماق التاريخ لتعلن أن الذاكرة ليست ماضياً يُروى، بل مستقبلٌ يُصنع. إن افتتاح المتحف المصري الكبير ليس حدثاً أثرياً عابراً، بل بيانٌ حضاري يصرخ في وجهِ الزمن، من يملك ذاكرته، يملك مصيره.
فالذاكرة حين تُترجم إلى حجرٍ ومعمار، تصبح فعلاً من أفعال المقاومة ضد الزوال. في قلب القاهرة، تُضاء قاعات المتحف الكبير لا لعرض حجارة صامتة، بل لإحياء ذاكرة أمةٍ عربية طال انتظارها لنهضة جديدة. إنه حدث يتجاوز حدود المعمار والزمن، لأنه يوقظ فينا الوعي بأن الحضارة ليست تاريخاً ميتاً، بل طاقة متجددة تنبض في روح الإنسان. من بين الجدران اللامعة والأروقة الواسعة، يتحدث الماضي بلغة المستقبل، وكأن مصر تهمس للعالم- من بنى الأهرام لا يمكن أن يعيش في الظل.
فما بين أهرامات الجيزة وسور قرطبة وقلعة دمشق، حمورابي بغداد، وبجراوية الخرطوم يمتد خيطٌ واحد هو خيط الذاكرة العربية التي لم تنكسر رغم تقادم العصور. المتحف المصري الكبير ليس مجرد احتفاء بمصر، بل استعادةٌ لروح الأمة العربية التي صاغت وجودها بالحجر واللغة والفكر. فهو يذكّرنا أن العرب، حين امتلكوا ذاكرتهم، امتلكوا قدرتهم على النهضة، وحين فقدوها، تفرّقوا بين دويلاتٍ صغيرةٍ تبحث عن هويتها في رماد الآخرين.
إن المتحف يربط بين الضاد والذهب، بين الكتابة الأولى والفكرة الأولى، بين المعبد المصري والبيت العربي، في وحدةٍ رمزية تُعيد تعريف العروبة بوصفها ذاكرةً حضارية قبل أن تكون انتماءً سياسياً.
ليس هذا المتحف مجرد حجارة منمقة أو أروقة للعرض، بل هو بيت للروح المصرية التي صاغت الجمال قبل أن تُكتب الفلسفة، وحاورت الموت والحياة على جدران المعابد قبل أن يعرف الإنسان معنى الوجود، فالجمال الذي أبدعته مصر لم يكن محلياً، بل نواة الوعي الجمالي العربي في أرقى تجلياته. إنه إعلان عن إرادة الاستمرار، وشهادة على قدرة مصر على تحويل التاريخ إلى طاقة مستقبلية. كل تمثال، كل نقش، كل قطعة أثرية، ليست رواية عن الماضي، بل رسالة إلى المستقبل. إنه خطاب صامت يقول 🙁 من عرف سر الجمال الأول، يحق له أن يبني الغد).
إن بناء هذا الصرح ليس إنجازاً ثقافياً فحسب، بل فعل أخلاقي بامتياز. فالحفاظ على الآثار هو احترام للإنسان ذاته، وتكريم لذاكرة الشعوب التي أبدعت قبل آلاف السنين. حين تنفق مصر المليارات على هذا المشروع، فهي لا تشتري حجارة، بل تستثمر في القيم: في الوفاء للماضي، وفي الاعتراف بأن الحضارة تُبنى على الصدق مع الذات واحترام الجمال. بهذا المعنى، يصبح المتحف مدرسة أخلاقية للوعي التاريخي، تذكرنا أن الأمم العظيمة لا تُقاس بما تملك، بل بما تحفظ من معناها الإنساني. فلم يعد الحفاظ على التراث فعلاً عاطفياً، بل أصبح مشروعاً تنموياً يربط الثقافة بالاقتصاد، والهوية بالتنمية.
إن المتحف المصري الكبير نموذجٌ مبكر لاقتصاد الثقافة وصناعة الهوية في المستقبل العربي.
فحين تتحول الحضارة إلى موردٍ معرفي وسياحي واقتصادي، يصبح الماضي شريكاً في بناء الغد.
هذا الصرح لا يحفظ التاريخ فقط، بل يُعيد توظيفه في بناء الإنسان العربي الحديث. فالثقافة ليست ترفاً فكرياً، بل رأس مالٍ رمزي يربط الأجيال بمصيرٍ واحدٍ ويمنح الأمة العربية موقعها في خريطة العالم الجديد. وفي زمنٍ تتعرض فيه الهوية العربية لحروب التشويه والطمس، يأتي المتحف المصري الكبير ليقول للعالم: إننا أمة عربية تصنع ذاكرتها ولا تشتريها.
والمتحف المصري الكبير ليس ملكاً لمصر وحدها، بل هو تراث رمزي للأمة العربية بأكملها. فمصر، بما تمثله من مركز حضاري وتاريخي، تؤكد أن الهوية العربية لا تبدأ من حاضر السياسة، بل من جذور الحضارة الإنسانية الممتدة في عمق التاريخ، فكما تحافظ مصر على آثارها، فإن على الأمة العربية أن تحمي آثارها الحية في القدس ودمشق وبغداد وعدن من محو الذاكرة وهدم الهوية. ومن هنا، فإن افتتاح المتحف في زمن الانقسام والتشظي هو نداء للعقل العربي كي يتذكر نفسه، ويستعيد ثقته بقدرته على البناء والإبداع.
ليس المتحف صرحاً من الماضي، بل مرآة للمستقبل. فهو يقول لنا إن الكرامة الإنسانية تبدأ من حفظ الذاكرة، وإن الجمال شكل من أشكال المقاومة ضد النسيان. في هذا الفضاء الذي يحتضن الآثار، تلتقي الروح بالحجر، وتتعانق الأخلاق بالتاريخ، ليولد وعي جديد يرى في الماضي طاقة خلاقة، لا عبئاً جامداً.
حين تُضاء قاعات المتحف المصري الكبير، لا تُضاء الآثار وحدها، بل يُضاء المعنى العربي في جوهره: أن تكون إنساناً يعني أن تترك أثراً، وأن تصون ذاكرة الأرض. إنه درس حضاري عميق في زمنٍ يتنازع فيه البشر على الأشياء وينسون المعاني. فالمتحف ليس بناءً يضم الماضي، بل رسالة تعلن أن الذاكرة هي أسمى أشكال الخلود، وأن الأمة التي تتذكر، لا تموت.
يا أمة العرب، إن هذا المتحف ليس مجرد حجر يروي حكاية مصر، بل مرآة لوجهكم الحضاري جميعاً. فيه تتجسد الذاكرة التي جمعتكم قبل أن تفرقكم الحدود، وفيه تنطق الرموز التي تقول إن مجدكم لم يكن أسطورة، بل حقيقة أبدعها الإنسان العربي حين كان مؤمناً بنفسه وبرسالته. فإذا كانت الأمم تُقاس بما تحفظ من روحها، فليكن هذا المتحف دعوة لأن نحفظ روح العروبة في أبهى معانيها—روح الإبداع، والكرامة، والصدق مع التاريخ. إن الحضارة لا تعود بالبكاء على الماضي، بل بالإصغاء إلى صوته العميق، والعمل على أن يصبح المستقبل امتداداً لجمال البدايات.
إن المتحف المصري الكبير ليس عودة إلى الماضي، بل نداء إلى المستقبل العربي أن يتذكر ذاته، فالأمم التي تحفظ ذاكرتها، تحفظ وجودها.
				

					


