راي

وكفى _ مصر والسودان _ طه عواض _ بعانخي برس

 

 

 

طه عواض

قبل سنتين عندما زرت مصر . اذكر انني
نزلت في حي المهندسين وهو حي معروف يقع فى قلب القاهره
لفت انتباهي ذلك الغبار والضوضاء الذي كانا يملأن المكان الذي استأجرنا فيه شقه في بناية تطل علي أحمد عرابي مع عمر طوسون
اصوات العمال وضجيج الماكينات والاليات
انهم منهمكين فى عمل ضخم علي مايبدو
الآليات والعمال واكوام التراب والرمال
وتلك الاعمدة الاسمنتيه الضخمه التي تراصت بأنتظام
كل شي يبدو محترفا …دقيقا
نزلت فى تلك البناية التي تقابل ذلك الكبرى حديث الانشاء
كبري ١٥ مايو محور ٢٦ يونيو
كان تلك الاعمدة تعلن بداية العمل فيه
عمل صنعته بدقه واحترافيه
ايادي مصريه لم تعرف الكلل او الملل
لم تميز بين الصباح او الليل
اكتشفت ذلك بعد ان منيت نفسي وانا القادم حديثا للقاهره
ان انام بعد ان تهدأ اصوات الماكينات وكل ذلك الصخب
ولكن هيهات
استمر العمل حتي صباح اليوم التالي
والايام التي تلتها وهكذا..
كنت ولازلت معجبا بالفن المعماري المصرى
القديم والجديد
ولكن ذلك الفن الذي رأيته أمام عيني في تلك الفتره
كان فن من نوع آخر
فن معماري هندسي تتجسد فيه ملامح الإصرار والوطنية والتجرد والتفاني والاخلاص
منظر المهندسين يعملون وهم يأكلون السندوتشات
منظر العمال المعلقين في الهواء علي أربطة السلامه والامان يغنون المواوييل والاغاني
بمختلف اللهجات المصريه يطوون السيخ ويطوعونه كما تريد الخرطه التي يعملون عليها
من الواضح أن ذلك الكبري الذي مسحت له حديقه كما قال لي احد الاخوة المصريين بالاهميه بمكان حتي يكون العمل فيه بتلك السرعه وذلك الإتقان.. الإتقان في كل شيء .
وبعد شهر ونصف
والكبري علي وشك الانتهاء
وعربات الاسفلت بدأت برصف الطريق
والعمال هنا وهناك يدهنون الكبري
صادف ان استقل سيارة أجره بواسطه احد التطبيقات المعروفه
ركبت بادلته التحيه كان مصريا في مقتبل العمر
وعندما عرف انني من السودان من لهجتي
بادرني بالسؤال
الأخ سوداني
قلت ليه
ااااه انا من السودان
طبعا لازم تحاول لمن تجي مصر تتكلم العاميه عشان يفهموك بالرغم من ان الدارجيه السودانية أصبحت معلومه لديهم الا ان التعود علي الدارجيه المصريه يمكن ان تنفع فى التفاهم السريع
بسرعه
قال لي
اجدع ناس
..
هكذا هو المصري دائما
متحضر وان بدأ لك ابسط من مايكون
يعرف كيف يرد ويعرف كيف يبدو لبقا
المصريين كلهم كذلك
يتميزون بسرعه الرد
واللسان الحلو زي ما بنقول نحن
ونادرا ماتجد مصري فظ او جلف او عصبي
فذلك الأمر يتنافى مع طبيعة الشعب المصري
وان بدأ لك عزيزي القارئ العكس بحسب الانطباع الذي تسمعه عن المصريين وتعاملهم
الا انني متأكد ان التعامل المباشر معهم سيجعلك سريعا ما تغير رايك
المصري يتميز بانه يعرف كيف يتعامل مع الآخر
فى كل شي تربطك به معامله كانت. خدمات ..تجارة..عمل
ستجد المصري يستقبلك بكل تهذيب..واحترام ويقوم بما تريده منه وتسبق تعامله ألفاظ ومدلولات تشعرك بالراحه
البعض يقول ان سر اللسان الحلو ان المصريين يريدون مالك ومن اجل ذلك يتوددون إليك وان طبيعتهم في الحقيقة خلاف ذلك
اقول لمثل هذا الادعاء ان المهم هو التعامل الشخصي لتحكم هل هذا صحيح ام خطأ
والاسلوب وان بدأ ذلك لك محترفا
فإن الاحترافيه هنا تجعلك تشعر بالراحه والثقه
وطبعا لكل قاعده شواذ
ولكن فى هذا الأمر
فإن الشعب المصري بالتأكيد شعب متطلع للحياه يعرف كيف يعيش
تجده مبتسما برغم كل الظروف
صباح الخير ي باشا
صباح الخير ي ستي الحجه
عامله ايه
صباح الفل ي،حبيبي
هكذا كان الصباح هناك
وهكذا هو اليوم دوما
قفشات..وضحكات
وتحضير ليوم طويل بأهم شي
طولة البال
هكذا هو المصري دوما
لا شي غير فن التعامل مع الآخر يمكنه ان يجعل اكثر من ٣٠ مليون مصري دونا عن الجنسيات الأخرى يتعايشون ويعيشون في العاصمه فقط
المهم
دار بيني وبينه حوار فى عدة اشياء وهو يحاول المرور من الزحمه التي خلقها العمل في الكبري تحت الإنشاء ليدور حوله
قال لي فجأه
الأوضاع عندكم ملخبطه اوي في السودان
كان يعلم بخصوص المظاهرات التي كانت تنفذها لجان المقاومة إبان انقلاب البرهان
الخرطوم كانت مشتغله بحق في تلك الفتره الحرجه من عمر الثورة
ايوه
هكذل رديت
ملخبطه خالص
والدنيا بايظه هناك
للأسف
قال لي
ونحن كمان ي عم
السيسي مديقها علينا اوي الأيام دي
قلت له
الحمد لله (بتحفظ)
فقد كنت أعلم أن الحديث في السياسه المصريه
يمكن ان يودي بالمتحدث فى ستين الف داهيه
وانا مجرد اجنبي قادم لعلاج والدته
وفي نفس الوقت لم اكن انظر للسيسي للامانه كحال العسكر عندنا في السودان
استمر في الحديث معى
معبرا عن سخطه عن الأوضاع المعيشيه في مصر
وانا احاول ان اتجنب الخوض في حديثه لشيئ فى نفس العبد لله يعلم تماما
حتي قال لي في نص كلامه
ايه رأيك في السيسى !!
رديت بدون تفكير بسؤال وانا انظر للكبري عبر نافذة،السياره وهو يستعد للعودة من ورائه

خلي رأيئ في السيسى
أنا عايز اسألك سؤال
الكبري دا يخلص عندكم في كم من الزمن
لم يتردد وقال
حوالي التلات شهور. يقصد ثلاث شهور منذ البدايه وحتي التسليم
بسخريه قلت له
كبري ذي دا عندنا في السودان
يخلص في ثلاثين سنه
ي عم نحن عندنا مدينه رياضيه
هيكلها من سنة ٩٤ وللان ماخلص
ي عم انا جاي من السودان لعلاج والدتي عندكو هنا في مصر
لانو هناك العلاج مش ولا بد
وبفلوسك متقدرش تتعالج
الدكتور يكشرلك
والممرض يقرب يجدعك من السرير
والموظف ينظر لك علي انك عايز تغشو في الحساب
ودا كلو كوم والأخطاء الطبيه كوم
شي مقص
وشي بنج ذائد
وشي لفة شاش او قطن
وكلها تنتهي بمقولة
المرحوم واهلو كانو غلطانين
عشان كدا بنجي نتعالج هنا
علاج افضل
والتكاليف اقل
ماتقرفنيش بااااه
لو السيسي مش عاجبكم
ادونا السيسى
ونديكم بدله البرهان وحميدتي وكباشي وكل العسكر العندينا
انتابته موجه من الدهشة
وفجأة ضحك بهستريا غريبه
وقال لي
ي عم برااااحه انت سخن كدا ليه
براااحه ي عم
قلت ليه
الراجل يشيل من أموال مصر ويكبها ليكم معمار وطرق ومدن جديده عشان المصري يسكن ويشتغل
غلاء المعيشة مقابل البنيه التحتيه
والقروض .. اشتغلو بأااه عشان البلد تمشى معاكم ومتوفقش زيينا
وانتو ماشاء الله شعب يحب الشغل صاح
قال لي
اااه
واصلت
انتو تحمدو الله انو الجيش عندكم صاحى
ومش مسيس وحارب الاخوان المسلمين عندكم لما حاولو يعملو تمكينهم زي ماعملوه في السودان
ولو ما كان صاحي كان تلحقونا طوالي وتبقو اكعب مننا
قال لي
ازااااي ي باشا
قلت له
عندنا اخوان اسوأ من اخوانكم بملايين المرات
اخوانكم اضربوهم في عشرة
عشرة ايه
اضربوهم في مليون
جرو البلاد لحروب بعدما سيسو الجيش
وقضو علي الأخضر واليابس ولمن جات الثورة عندنا
وحاولنا نرجع للديمقراطيه قام الاخوان تاني جوه الجيش بانقلاب ولسه الشعب السوداني بحاول ارجع منهم البلد عشآن كدا المظاهرات مستمره والموت للمتظاهرين مستمر
فاحمدو الله انو الجيش عندكم صاحى ومابلعبش في أمن مصر
تغيرت لهجته فجاة
وهو يقول
ي سعادة البيه
اقولك شي
الجيش عندنا زي ماقلت
صاحي لأنو امن مصر من أمننا جميعا
نحن مابنلعبش في أمن مصر
لأنو مصر دي امي وابويا واختي واخويا
مصر هي بلادنا يا باشا
ونحن حاربنا الاخوان والارهابييين
من زمن جمال عبد الناصر
لدرجه انو المصري مننا لو عايز يقولك نحن اخوان
يقوللك نحن اخوات
عارف ليه ي باشا
لانو كلمة اخوان توديه وراء الشمس.
الشعب المصرى مابستسلمش بالساهل ابدا ابدا
أنا مثلا
اخوك فلان الفلاني
انا ضابط في الداخليه ي باشا
اشتغل دوامي بالصبح
واطلع اشتغل علي العربيه
عشان ازود دخلي وكل المصريين
كدا
والحمد لله
ياباشا اليد العاطله نجسه
ونحن مالينا غير انو نشتغل وبس
ضحكت
وانا أشير له بيدي علي كلامه
وقلت
ضابط فى الداخليه
انت بدردقني ي عم
وتسألني من السيسى
عايز توديني وراء الشمس
ولا ايه
وضحكنا ثم تبادلنا الارقام
وهو بقول لي
اي خدمه اي مشكله اتصل على اخوك علي طول
بس قولي
ادردقك معناها شنو
قلت ليه
تستدرجني ي سعادتك
هههههههه

نزلت وانا اضحك للموقف
واضحك علي حال البلد
وانا اري العسكر فى مصر
يحققون كل ذلك المستحيل
حتي صار ممكنا.
كبري يخلص فى ٣ شهور
وغيره من الطفرات المعماريه
بعد سنتين بالتأكيد لم أجد تلك الشوراع كما كانت
لان هناك حكومة تعرف ماذا تريد أن تعمل.
مصر اليوم وبرغم الحروب التي تحيط بها
من ليبيا والسودان وفلسطين
والتي اثرت علي اقتصادها وامنها بالتأكيد الا انها مازالت صامدة تحاول تقديم العون للجميع مصريين وجنسيات أخرى وتحاول ان تحافظ على امنها وأمن مواطنها
وزي ماقال ذلك الضابط يومها
مصر ما بتستسلمش بالساهل ابدا
وهذا ما جعلها وسط كل هذه الظروف شامخه مثل اهراماتها
تتحدى الزمن والدسائس والمؤامرات.

التحيه لمصر التي تسهل امر السودانيين الان
وتغض الطرف عن الالاف الذين نزحو وهي التي كان بإمكانها ان تتشدد في دخول السودانيين عبر التهريب وتكسف من حملات التفتيش فى الطرق والمعابر الداخليه ولكنها لم ولن تفعل ذلك
لان مصر تنظر للسودانيين بعيون تتجاوز الحرب..والسياسه
عين تنظر عبر تاريخ طويل ممتد مشترك بين شعبين كان فيه النيل رابطا مقدسا ولازال

هل يعلم السودانيين ان السودان استقبل اكثر ملايين المصريين إبان حرب النكسه
وان مصر رحلت سلاحها لداخل السودان لكي تحميه !

هل يعلم احد السودانيين هناك جنود سودانين مدفونيين في العلمين وفي سيناء شاركو في حرب العبور ضد المحتل الاسرائيلي وان فكره خراطيم المياه التي هدمت خط باريلف كانت نبات افكار مهندس سوداني منتدب للسد العالي
وان الشفرة التي استعملها الجيش المصري في العبور كانت باللغه النوبيه.

وبالتاكيد ان الحوداث التي وقعت لبعض السودانيين أثناء وبعد دخول مصر عبر التهريب ومايشاع هي تمثل شيء يسيرا لما يلقاه المواطن السوداني من امن وحياه كريمه هناك جعلته يتحمل كل المخاطر من اجل الوصول اليها
فطرق التهريب تلك لم تكن لتهريب البشر وهذه حقيقه
وان اراد الجيش المصري فعليا إقفال حدود مصر ومنع السودانيين من الدخول لمصر لفعل ذلك
ولكن لم يتشدد و لم تترك الحبل على القارب وظل متوازنا اتجاه السودانيين ومتشددا مع المهربين
الذين يشكلون اساس المهددات الامنية لها وهى من اجل ذلك تراقب حدودها لتحمي نفسها من تهريب الوقود والمخدرات والسلاح والذهب والعمله والارهاب.
لذلك تكون هناك مطاردات فى الحدود للمهربيين
والتي تخللتها بعض الحوداث للأسف راح ضحيتها اسر سودانيه آخرها اسرتين من اسر ود مدني المعروفه توفوا
نسأل الله لهم الشهادة والجنه
حيث هرعت الحكومة المصريه لمكان الحادث وقامت بأسعافهم فى مستشفى اسوان الجامعي وعملت كل الواجب اتجاهم بأنسانيه تشكر عليها.
وحتي الحملات التي يقوم بها الأمن المصري داخل القاهره تكون عادة في الأماكن المشبوهه واوكار الجريمه التى للأسف أصبحت مرتعا لبعض السودانيين مرتادي الاجرام
وبالتأكيد كل السودانيين يعلمون ان هناك مجموعات سلب ونهب من النيقرز فى بعض الحارات ومفتعلي المشاكل الذين تلوثت سمعة السودانيين بهم للاسف فى بعض الأماكن حتي صار السودانيين يبتعدون عنها خوفا من السمعه والمسائله القانونيه وكشات الأمن الداخلي الذي يعتبرها مهددا امني داخلي ..وماعدا ذلك فإن السودانيين فى كل مصر ومحافظاتها يلقون احسن معامله ويعيشون بأمن وسلام مع اخوتهم المصريين وهذا واقع يكذب كل تلك الافتراءات ويقلل من التشوهات التى حدثت والتي نتمني ان لا تحدث مستقبلا.

هكذا هي مصر التى عندما زرتها قبل سنين لأول مره لم اشعر فيها انني غريب علي دون العادة
ومن اجل ذلك بالتأكيد سميت (بأم الدنيا )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى