
الما عندو كبير ….الترابة فى خشمو …!
عفاف عدنان
نحن السودانيون من أكثر شعوب الأرض تبجيلا واحتراما للكبير …أذكر أننى كتبت فى هذه المساحة قبل فترة ليست بالقصيرة عن حيرة كليتنا ووزارة الصحة عندما كان علينا أن نقوم بعملنا الميدانى فى كورس ( رعاية المسنين) …إذ لم يكن هناك ـ وقتها ـ ملجأ للعجزة …ولم يكن ذلك غريبا ..بل الغريب ..والذى يحدث الآن ..هو أن يكون هناك ملجأ للعجزة !!..وكيف أن هيئة السكك الحديدية قد أبلغت أنها وجدت مواطن فاقدا للذاكرة نائما على إحدى الأرائك …وكيف أن وزارة الشئون الإجتماعية إهتمت بالأمر ..فقامت ببناء غرفة فى ساحة خالية جوار فندق الميريديان ..وأثثتها له ..وزودتها بوسائل الراحة لشخص فى سنه (كان فى السبعين أو يزيد ) …ثم قامت وزارة الصحة بانتداب ممرض بدوام كامل ليقوم بخدمته ..ويأتيه الأكل من مستشفى الخرطوم ..فكنا نقوم بزيارته والتحدث معه وكذلك يفعل طلبة كلية الطب ..حتى أتممنا الكورس بسلام …
تذكرت بهذه المناسبة ما حدث معى أثناء بعثتى بالمملكة المتحدة …وكنت أعمل حينها بمستشفى (جون رادكليف ) المخصص للحالات الطارئة ..فكنا نستقبل المرضى كما يحدث فى قسم الحوادث ..ثم يخرجون فى نفس اليوم إذا تم إسعافهم أو يحولوا إلى مستشفى آخر لمواصلة علاجهم …
فى أحد الأيام جىء لى بسيدة فى العقد السابع من عمرها …سقطت مغشيا عليها أثناء سيرها فى الطريق ..وكان حول معصمها شريط بلاستيكى عليه إسمها والملجأ الذى هى نزيلة به ..ولم تكن حالتها عصية …كانت فقط قد نسيت أن تتناول (حبة السكرى ) فقمت بالعناية بها ..وجلست أجاذبها أطراف الحديث ..( العجايز ديل منضمة …كلامهم كتير ) ولكنى كان يعترينى الفضول تجاه كل شىء فى ذاك البلد العجيب …فحكت لى عن حياتها ..وكيف أن زوجها توفى قبل فترة ..وتركها وحيدة مع إبنهما الوحيد الذى تزوج ورحل مع زوجته …ولما كانت نزيلة ملجأ و لم يقم بزيارتها أى شخص فقد ظننت أن إبنها هو أيضا قد مات …وترددت كثيرا ..ولكن الفضول حل عقدة لسانى ..فسألتها ( وأين إبنك الآن ) فتبسمت فى حنان وقالت ..إنه يقطن فى مدينة (بدفورد ) مع زوجته وطفليه ..ثم سألتها عن آخر مرة رأته فيها ظانة أنه قد غادرها بالأمس بعد أن قضى معها إجازة نهاية الأسبوع ..فقال إنها رأته قبل أريعة سنوات !!!وذهلت …إذ أن هذه المدينة تبعد عن أكسفورد أقل من ساعة بالقطار الذى يغادر أكسفورد كل ساعتين !!ويبدو أن الدهشة بدت جلية فى وجهى لأنها استدركت تقول إن شغله كثير ولابد من العناية بالأطفال ..كل هذه الأشياء تستنفذ وقته …فقلت لها ولكنه يستطيع أن يرتاح فى نهاية الأسيوع هنا معك ..أويأتى لزيارتك فى إجازاته الأخرى وما أكثرها ..ولدهشتى رأيتها غاضبة منى وهى تقول (هل يهمل فى عمله من أحلى ؟ وهل يقضى إجازته مع إمرأة مسنة ومريضة مثلى ؟ وما ذنب زوجته وأطفاله ؟ إنهم يريدون أيضا الإستمتاع بحياتهم …)
أحزنتنى القصة جدا …وأدهشنى أسلوب الجدة التى لا ترمى بأى لوم على إبنها …وقصصت القصة على صديقتى الإنجليزية ..والتى رأتنى ساهمة بسببها ..فقالت ضاحكة ( وماذا فى ذلك ؟ هذا شىء طبيعى …فهى أيضا أودعت والديها الملجأ ..وكلنا سنفعل ..وسيفعل كذلك أبناؤنا …) ربما أراحنى المنطق بعض الشىء إذ أن العجوز لا تعانى أى مرارة ..وجل ما تحتاجه من رعاية ستجده بغزارة فى مكانها هذا …
تذكرت هذه القصة بعد عدة سنوات وأنا أهيىء إبناى الصغيران للنوم …وأحكى لهما عن أمومة الحيوانات وحب الأم والأب للصغار ..فسألت الكبير والذى كان فى السادسة ( لو كنت معاكم يا كمال إنت وزوجتك وأطفالكم …ثم طلبوا هم منك أن أمشى أنا ..حتسوى شنو ) فبدأ كمن إستغرقه التفكير ثم قال ( أقول ليهم خلوها تقعد أسبوع تانى ) وقبل أن أحس بخيبة الأمل هتف الاصغر قائلا ( لا تقول ليهم عيب عليكم ..دى حبوبكم ) قالها هكذا ( مش حبوبتكم ) …….