
*شاهيناز القرشي*
يبدو أن السعودية نجحت تمامًا في تعميق الشراكة بينها وبين أمريكا لتصبح الشريك السياسي الأهم في المنطقة، كما هي الشريك الاقتصادي الأكبر في المنطقة. ولكن لا يعتقد أحد أن هذه الخطوة ستجعل من تحركات الإمارات في إفريقيا أقل حدة أو تتغير أهدافها، أو أنها ستتقبل هذا التراجع بكل بساطة دون أن تحاول استعادة ما فقدته أو ضمان مكتسباتها على الأقل.
لقد أنفقت الإمارات مبالغ مهولة لتؤسس لهذا الانفتاح الذي نشاهده، إنفاق على الاستثمار في كامل إفريقيا بدءًا من دول الساحل الأفريقي مثل النيجر ومالي وبوركينافاسو وتشاد والسودان وجنوب السودان وإثيوبيا والصومال وإريتريا وموريتانيا وصولًا للجزائر والمغرب ومصر. كما استثمرت الإمارات في أغلب المراكز البحثية في أوروبا وأمريكا وبيوت الخبرة أو ما يعرف ب Think Tank، مما ربطها بكل الأحداث في العالم وجعلها تواكب التطورات المتوقعة.
ووظفت شركات مختصة بصناعة السياسات ومستشارين ذوي باع وخبرة طويلة، ويقال إن كولن باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كان أحد هؤلاء المستشارين بعد تقاعده. لم تكتفِ الإمارات بدول إفريقيا، فهي تتوسع الآن في البرازيل وتحاول اقتحام سوق السلاح هناك، وتتشارك مع باكستان والسعودية والصين في صناعة طائرة مقاتلة من المفترض أن تنافس الطائرة الشبحية الأمريكية F-35، بالإضافة للاستثمارات في أوروبا وأمريكا وآسيا.
كلمة “استثمار” التي أذكرها اختصارًا تحوي تفاصيل كبيرة لا تختص بالمال فقط، فنحن نتحدث عن اخطبوط مالي وسياسي وأحيانًا عسكري يتحرك بشكل جدي وفعال جدًا و بمساعدة كل الكيانات التي ذكرتها انفاً وساذكرها لاحقاً، ليصنع لنفسه وجودًا بعد اختفاء البترول. الإمارات صنعت شراكات مع سياسيين ورجال دولة ومنظمات في أغلب الدول المؤثرة في العالم. الأخطر من ذلك، في كثير من الدول التي سيطرت عليها اقتصاديًا أو التي تحاول أن تسيطر عليها، ربطت الحكام وحاشيتهم بها بشكل مباشر وشخصي عبر الاستثمارات الشخصية لهم ولأبنائهم أو عوائلهم، ووفرت لبعضهم الدراسة في جامعاتها والإقامة وقدمت كل التسهيلات اللازمة، فأصبح هؤلاء غير راغبين في إنهاء التعامل أو وضع حد للممارسات المرفوضة في بلدانهم.
المتوقع للمنطقة أو للعالم ككل أن تحدث تغيرات مهمة جدًا، لذلك يمر العالم بهذا المخاض العسير، وهي تغيرات في الغالب سيستقر عليها العالم ربما لمئة عام قادمة. تغيرات ليس فيها حاكم وكبير للعالم كما كان في السابق، ستتعدد الأقطاب، ولكن هذا القطب المهيمن لا يريد أن يخرج ويترك الحبل على القارب حتى لا تحل محله قوى قطبية أخرى. يريد أن يظل ذو تأثير ويد طائلة عبر تغيير الآليات، فإذا كانت ستتعدد الأقطاب فلا بأس من أن تتجزأ أيضًا، وبدلًا عن السيطرة الكاملة فلتصبح سيطرة متدرجة، وتمر عبر أكثر من مرحلة.
في السابق منحت الإمارات هذا الدور وساعدها في ذلك علاقاتها مع مجموعات الضغط، ولكنها انتهجت أسلوب دعم الميليشيات في محاولة لحماية استثماراتها وتثبيت أقدامها، مما زعزع استقرار المنطقة كلها، وانفلت الزمام في كثير من الأحيان وتجاوز المطلوب. ويبدو أن هذا الأسلوب لا يناسب المرحلة القادمة، لذلك ستقود السعودية المنطقة باعتبارها الشريك الأقوى لأمريكا، وكذلك الشريك والمستثمر الذي يتبع أسلوب “خذ وهات”، فيد واستفيد، ولا تصنع مخالب لتهدد كل من يعارض خططها.
السعودية لديها وزن ديني وإقليمي ومالي يشكل رصيدًا مسبقًا لها في التعامل مع الإقليم وحتى إفريقيا.
كيف تنجو الدول التي لم تتمكن منها الإمارات بشكل كامل حتى الآن؟ تنجو بأن تربط مصالحها باللاعب الجديد، وهو السعودية، فالسعودية قادرة على حماية مصالحها بطرق لا عنفية، وكذلك لديها دعم أمريكي ممتاز.
هل يعني ذلك أن الإمارات أصبحت مغضوبًا عليها من أمريكا وسنراها تنهار وتتفكك بين يوم وليلة؟ بالتأكيد لا، ستظل لاعبًا مهمًا جدًا في المنطقة والعالم بما أنجزته حتى الآن. والغبي فقط من يستخف بها ويظن أنه سينتصر في هذه المعركة بالصراخ والاتهامات وبيع الكلام وإثارة المشاعر الشعبية بالهتافية. هذه معركة تحتاج للحكمة والحنكة والمهادنة والصرامة والعلاقات الجيدة مع العالم.
ففي السودان لا تزال لدينا فرصة لنصنع التوازن، وهذا عكس كثير من الدول التي أصبحت شبه مرهونة للإمارات مثل المغرب وموريتانيا، وكذلك مصر نوعًا ما، حيث سيطرت الإمارات على الكثير من مفاصلها الاقتصادية. وبسبب هذه السيطرة ربما يكون النظام المصري أحد أدوات الضغط التي تستخدمها الإمارات على الحكومة السودانية حتى لا تنفذ القرارات التي أصدرتها بعض أجنحة الحكومة ضد الإمارات، بالإضافة إلى المصالح الشخصية والمعاملات الاقتصادية التي ترتبط بالإمارات.
هذا التداخل المعقد بين مصر الداعم الرسمي للجيش في حربه وبين الإمارات المتهمة بدعم الميليشيا والجيش السوداني الذي لا يريد أن يفقد مصر ولا المنفذ الإماراتي للذهب ربما يفسر بعضًا من ارتعاش أيدي بورتسودان في تنفيذ قراراتها. ومع ذلك لا زلنا في البر، حتى وإن كان الذهب السوداني يباع للإمارات حصرًا، فإذا كانت الصفقات عادلة فلا بأس. إذا كان هناك سياسيون قادرون على تدجين الأخطبوط واللعب مع أذرعه بمهارة، سننجو ونكسب.
ربما يسأل سائل: لماذا لا نميل للصين أو لروسيا؟ هذه خطة فاشلة سنناقشها في مقال قادم بإذن الله.