شئ للوطن ــ م.صلاح غريبة – مصر ــ Ghariba2013@gmail.com يوم التراث العالمي: صرخة للتراث السوداني في وجه الحرب ــ بعانخي برس
بعانخي برس

في الثامن عشر من أبريل من كل عام، نحتفي بيوم التراث العالمي، وهو مناسبة تدعونا للتأمل في ثراء إرثنا الحضاري والإنساني، وضرورة صونه وحمايته للأجيال القادمة. لكن احتفال هذا العام يكتسي طابعًا خاصًا من الألم والقلق، ونحن نشاهد بأعين دامعة كيف يئن التراث السوداني العريق تحت وطأة حرب ضروس تلتهم الأخضر واليابس، وتهدد بمسح ذاكرة أمة بأكملها.
السودان، مهد حضارات ضاربة في القدم، يحتضن في طياته كنوزًا أثرية ومعالم تاريخية تحكي فصولًا مجيدة من تاريخ البشرية. من أهرامات النوبة الشامخة التي تنافس في عظمتها أهرامات الجيزة، مرورًا بمدن مملكة كوش القديمة مثل مروي ونبتة، وصولًا إلى الآثار الإسلامية العريقة في سنار وأم درمان، يشكل التراث السوداني نسيجًا فريدًا يربط الماضي بالحاضر، ويقدم شهادة حية على إسهامات هذه الأرض الطيبة في الحضارة الإنسانية.
لكن هذا الإرث الثمين يقف اليوم في مهب الريح. أصوات المدافع تدوي في أرجاء البلاد، والقذائف الطائشة لا تفرق بين هدف عسكري ومعلم أثري. التقارير الواردة تبعث على الفزع، حيث تتحدث عن تضرر مواقع أثرية، ونهب متاحف، وتحويل مبان تاريخية إلى ثكنات عسكرية أو ساحات قتال. حتى تلك المواقع التي لم تطالها يد الحرب بشكل مباشر، فهي مهددة بالإهمال والضياع في ظل الفوضى وانعدام الأمن.
إن تدمير التراث ليس مجرد خسارة مادية أو معنوية للسودان وحده، بل هو جريمة بحق الإنسانية جمعاء. فتلك الآثار والمعالم ليست مجرد حجارة صامتة، بل هي شواهد حية على تاريخنا المشترك، ونافذة نطل منها على إبداعات أسلافنا وحكمتهم. بفقدانها، نفقد جزءًا من هويتنا الجماعية، ونحرم الأجيال القادمة من حقها في التعرف على جذورها الحضارية.
إن الوضع الراهن في السودان يستدعي تحركًا عاجلًا ومنسقًا على كافة الأصعدة. فالمسؤولية تقع على عاتق المجتمع الدولي، والمنظمات المعنية بالتراث، والشعب السوداني نفسه، للعمل يدًا بيد من أجل حماية هذا الإرث المهدد بالزوال.
يمكننا الحفاظ على التراث السوداني والآثار والمعالم في ظل هذه الظروف الصعبة بالوقف الفوري للقتال وحماية المدنيين، وإن الخطوة الأولى والأكثر أهمية هي الضغط بكل الوسائل المتاحة لوقف إطلاق النار بشكل دائم وشامل. ففي ظل استمرار القتال، يصبح أي جهد لحماية التراث ضربًا من المستحيل. يجب على أطراف النزاع إدراك أن استهداف التراث جريمة حرب يجب أن يحاسب عليها مرتكبوها، مع توثيق الأضرار وتقييم المخاطر، فعلى الرغم من صعوبة الأوضاع الأمنية، يجب بذل كل جهد ممكن لتوثيق الأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية والمتاحف والمباني التاريخية. يمكن الاستعانة بالصور والأقمار الصناعية والشهادات الموثوقة لتقييم حجم الخسائر وتحديد المواقع الأكثر عرضة للخطر.
بالاضافة الى تأمين المواقع الأثرية والمتاحف، فبمجرد استقرار الأوضاع نسبيًا، يجب العمل على تأمين المواقع الأثرية والمتاحف لحمايتها من السرقة والنهب والتخريب. يتطلب ذلك تضافر جهود السلطات المحلية والمجتمعات المحلية والمنظمات الدولية لتوفير الحراسة اللازمة ووضع خطط للطوارئ، مع نقل وحفظ المقتنيات الثمينة، ففي المناطق التي تشهد قتالًا عنيفًا، قد يكون من الضروري نقل المقتنيات الثمينة من المتاحف والمواقع الأثرية إلى أماكن آمنة لحفظها من التلف أو الضياع. يجب أن يتم ذلك وفقًا للمعايير الدولية وبإشراف خبراء متخصصين، بجانب رفع الوعي بأهمية التراث، ويجب تكثيف الجهود لرفع الوعي لدى جميع أطياف الشعب السوداني وخاصة شرائح الشباب والطلاب بأهمية التراث الوطني وضرورة حمايته. يمكن استخدام وسائل الإعلام المختلفة والمنصات الرقمية لتسليط الضوء على قيمة هذا الإرث وخطورة فقدانه، ويجب على المجتمع الدولي والمنظمات المتخصصة مثل اليونسكو تقديم الدعم الفني والمالي للسودان في جهود حماية التراث. يمكن أن يشمل ذلك تدريب الكوادر المحلية، وتوفير المعدات اللازمة للترميم والصيانة، وتقديم الخبرة في مجال التوثيق والحفظ.
إن الحفاظ على التراث السوداني في وجه هذه المحنة ليس مجرد واجب تاريخي، بل هو استثمار في مستقبل هذا البلد. فالتراث هو جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية، وهو مصدر للفخر والاعتزاز، ويمكن أن يلعب دورًا هامًا في عملية المصالحة وإعادة البناء بعد انتهاء الحرب.
في يوم التراث العالمي هذا العام، نوجه نداءً صادقًا إلى جميع الأطراف المعنية: أوقفوا نزيف الدم في السودان، واحترموا تاريخه وحضارته. لا تدعوا أصوات المدافع تطغى على همسات الماضي العريق. لنعمل معًا من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والحفاظ على شعلة التراث السوداني مضيئة للأجيال القادمة. إن صمتنا اليوم سيكون وصمة عار في جبين التاريخ، وعملنا المشترك هو الأمل الوحيد في الحفاظ على هذا الإرث الإنساني الثمين.