راي

شئ للوطن ــ م.صلاح غريبة – مصر Ghariba2013@gmail.com ــ قطار التنمية: كيف يمكن للسكك الحديد أن تعيد بناء السودان؟ ــ بعانخي برس

بعانخي برس

 

 

 

بعد سنوات من الركود، والانهيار الذي تفاقم بسبب الصراعات الأخيرة، تعود السكك الحديدية في السودان لتتصدر المشهد، ليس مجرد وسيلة للنقل، بل كرمز للأمل، ورافعة للتنمية الاقتصادية. إن الاهتمام المتجدد بالهيئة العامة للسكك الحديد، من خلال زيارة وزير البنية التحتية والنقل، والمبادرات الخلاقة مثل مبادرة الإعلامي عمار عبد الرحمن عجول، يمثلان مؤشرات إيجابية على أن البلاد قد بدأت تدرك قيمة هذا الشريان الحيوي. فمع كل متر من القضبان يتم إصلاحه، وكل قاطرة تعود إلى العمل، يخطو السودان خطوة نحو التعافي وإعادة البناء.
لا يمكن المبالغة في وصف أهمية السكك الحديدية للسودان، فهي ليست مجرد شبكة نقل عادية، بل هي عمود فقري حقيقي يدعم الاقتصاد. يمتلك السودان أطول شبكة سكك حديدية في أفريقيا، تمتد من أقصى الشمال إلى الشرق والغرب والجنوب، وتربط المدن الرئيسية والمناطق المنتجة بالأسواق وموانئ التصدير. هذه الشبكة، التي بدأ إنشاؤها في أواخر القرن التاسع عشر، كانت في يوم من الأيام شريان الحياة الذي يغذي البلاد، ويسمح بانسياب المنتجات الزراعية والحيوانية والصناعية من مناطق الإنتاج إلى مناطق الاستهلاك وموانئ التصدير.
ولكن، سنوات من الإهمال وسوء الإدارة، ثم ما فاقمته الحرب الأخيرة، أدت إلى تدهور مريع في هذه الشبكة. اليوم، أصبحت كلفة النقل البري هي السبب الرئيسي في ارتفاع أسعار السلع، مما يثقل كاهل المواطن السوداني ويؤثر سلبًا على قدرة البلاد التنافسية في التصدير. هنا يأتي دور القطارات، التي توفر أرخص وسيلة نقل للبضائع والركاب، وتستوعب كميات هائلة من الحمولات التي لا يمكن للشاحنات أن تحملها. إن إعادة تأهيل هذه الشبكة ليست مجرد خيار، بل هي ضرورة اقتصادية ملحة.
المعلومات المتوفرة عن زيارة وزير البنى التحتية والنقل، الأستاذ سيف النصر التجاني هارون، إلى هيئة السكك الحديد بعطبرة، تؤكد أن هناك إرادة سياسية حقيقية لإعادة إحياء هذا القطاع. تصريحات الوزير حول أن الوزارة أعدّت خطة طموحة لتأهيل وتحديث الخطوط الحالية، ومشروعات لإنشاء خطوط جديدة، ليست مجرد وعود، بل هي مؤشرات على أن الدولة بدأت تولي اهتمامًا جديًا بهذا الملف. الأهم من ذلك، إشارته إلى التعاون مع دول شقيقة وصديقة عبر نظام (BOT) يفتح الباب أمام استثمارات أجنبية يمكن أن تسرّع من وتيرة الإصلاح، وتخفف العبء المالي عن كاهل الدولة.
ما يزيد من الأمل هو أن هذه الإرادة السياسية مدعومة بجهود وطنية قوية. المدير العام للهيئة العامة للسكك الحديد، المهندس موسى القوم الجهدي، ونائبه د. محمد نعيم نائل، استعرضا موقف تنفيذ خطة الهيئة، وأكدا على اكتمال تأهيل خط عطبرة – شندي – الخرطوم واستئناف حركة القطارات. هذا الإنجاز، الذي تحقق في ظل ظروف صعبة، يؤكد أن كوادر السكة الحديد السودانية ما زالت تمتلك الخبرة والعزيمة، وأنها قادرة على تجاوز آثار الحرب وإعادة تشغيل الورش والخطوط.
في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة وشح التمويل، تبرز مبادرة الإعلامي عمار عبد الرحمن عجول كنموذج يحتذى به للتفكير خارج الصندوق. فبدلًا من الانتظار حتى يتوفر التمويل الضخم لإنشاء بنية تحتية حديثة، دعا عجول إلى استخدام المتاح من القاطرات القديمة وقضبان السكة الحديد المبعثرة (الأسكَراب) لإعادة تأهيل شبكة القطارات. هذه المبادرة، التي ترتكز على الواقعية، لا تهدف فقط إلى إعادة تشغيل الخطوط الرئيسية، بل تتجاوز ذلك تتضمن فكرة إنشاء شبكة قطارات دائرية داخل ولاية الخرطوم لربط المحليات، وهو ما سيوفر حلًا جذريًا لمشكلة المواصلات الداخلية.
مبادرة عجول ليست مجرد فكرة نظرية، بل هي دعوة عملية للاستفادة من الخبرات العريقة لمهندسي وفنيي وعمال السكة الحديد السودانية، الذين يمتلكون معرفة لا تقدر بثمن في هذا المجال. إنها دعوة للبدء من الصفر، باستغلال الإمكانات المتاحة، مثل ورش الصيانة في عطبرة، التي لطالما كانت عاصمة الحديد والنار. هذه الفكرة تعكس مقولة أهل السودان “ما تحقر بقليلتك”، أي لا تستخف بالشيء القليل الذي تملكه، فقد يكون فيه البركة التي تأتي بالكثير.
إن إعادة إحياء السكك الحديدية في السودان لا تقتصر فوائدها على الجانب الاقتصادي فقط. فالمعركة الكبرى الموازية للمعركة العسكرية اليوم هي معركة الاقتصاد والتنمية. والسكك الحديدية هي ركيزة أساسية من ركائز دعم الاقتصاد الوطني، فهي مورد مالي ضخم من خلال إيراداتها اليومية، كما أنها تساهم في توفير فرص عمل وإعادة إعمار البنية التحتية المتضررة.
ولكن الأهم من ذلك، أن عودة القطارات إلى الخدمة ستعيد الروح إلى الأماكن والمناطق التي دمرتها الحرب. فمع كل رحلة قطار بين بورتسودان وعطبرة والخرطوم، تتدفق الحياة من جديد، وتعود الحركة التجارية، وتلتحم أجزاء البلاد من جديد، وهو ما يساهم في تعزيز اللحمة الوطنية.
إن السودان الذي عرف القطار والترام منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والذي امتلك شبكة سكك حديدية هي الأطول في أفريقيا، يستحق أن يستعيد أمجاده. فما حدث من تدهور ليس نهاية الطريق، بل هو حافز للبدء من جديد. إن إعطاء الأولوية للسكك الحديدية هو بمثابة استثمار في مستقبل السودان، لأنه يمثل خطوة أساسية نحو بناء اقتصاد قوي، وتوفير حياة كريمة للمواطنين، وإعادة البلاد إلى مكانتها التي تستحقها كقلب أفريقيا النابض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى