راي

دروب الحقيقة _ احمد مختار البيت _ المثقّف والحرب… والسُّخرية من ثقافة الآخر _ بعانخي برس

بعانخي برس

 

 

 

(سنصيرُ شعباً..حين ننسى ما تقولُ لنا القبيلة)
الشّاعر محمود درويش

لقد امتحنت الحرب، المثقف السُّوداني، وحاكمت كثير من الأخلاق والسُّلوكيات والقيم، وكشفت جهلنا بأنفسنا وبتراثنا وبتقاليد وموروثات ظلّت ناظمة لحياتنا فترة طويلة من الزمان، وتبدّت الآن للعيان مساويء مناهج التربية والتعليم وفقرها المعرفي والقيمي، وضعف أجهزة الإعلام المتعددة وخواء رسالتها نحو الشّعب وتقصيرها في التّعريف بتنوع السٌُودان وثقافاته وسكّانه ومعالمه الحضارية،

واتّضح أن الأرقام التي توثقها بعض أقلام المهتمين والمراقبين لا تعني شيئاً في ميزان المواطنة والحقوق المدنية عند القائمين على أمر تلك المؤسسات، وأن (القبلية) والتّحيّزات الجهوية والعنصرية كامنة تحت إيهاب رقيق اسمه الخدمة المدنية والوظيفة (الميري) تمزّق سريعاً في أول عاصفة الحرب
وظهرت 950 قبيلة، كل منها تدّعي أنها (شعب) و(دولة) وترفع رايات عدمية وتعادي الآخرين وتسّخر منهم. ولم تُحص بعد لغات ولهجات غير مكتوبة وأزياء وثقافات وأنشطة بتعدّد مناخات وبيئات السُّودان، ولم تخطر بتفكير الدولة والخبراء الإستراتيجيين، ولا وزارة الإعلام، ولا وزارة التربية والتعليم، ولا القوى السياسية المهيمنة على مقاليد السُّلطة منذ الاستقلال حتى اليوم، كيفية إدارة هذا التّنوع المدهش، وتوظيفه في خدمة ومنعة الوطن،

ولذلك كان من البديهي أن تأخذ الحرب منحنيات خطيرة ومدمرة، لم يجد لها المواطنون تفسيراً، ولم يصدقوا أن أطراف الصراع فيها ليست لهم مرجعيات أخلاقية تعصمهم من إزهاق كل هذه الأرواح وإراقة دمائهم وتدمير ممتلكاتهم وتهجيرهم في أكبر مأساة في العصر الحديث. وكثير من المبدعين والاكاديميين الذين تنبهوا لخطل السّياسات الرّافضة لقبول التّنوع الاجتماعي والثّقافي والديني في بلادنا وعبّروا عن ذلك في إنتاجهم العلمي والإبداعي سقطوا في أول إمتحان للصدق والمصداقية، حين انساقوا وراء خطاب العنصريين والجهويين العدمي في (السٌُوشل ميديا) وانقادوا برسن عاطفي استعلائي، يقوم على تصنيفات قبلية وجهوية وعنصرية لأطراف الصراع، بينما تجاوز الوعى العام للشّعب،

هذه المفاهيم المتخلّفة التي لا مستقبل لها في عالم اليوم الذي تتوحّد أطرافه وشعوبه وثقافاته في كل لحظة بابتكار علمي جديد، يقرّب المسافات ويفرض مفاهيم الوعي بالآخر والمواطنة العالمية، كجزء لا يتجزأ من السياسات التعليمية ومناهج وزارات التربية والتعليم في كل بلدان العالم، بل مارس كثير من الأحرار إنسانيتهم بالتّضامن مع قضايا إنسانية عادلة في بلدان، تبعد عنهم آلاف الأميال، وتفصل بينهم وبينها المحيطات والبحار. ولذلك تبدو مواقف بعض المثقفين من وحدة وجدان الشّعب السُّوداني وأرضه، ومن تنوّعه وثرائه الثقافي، ردّة كاملة في الوعي بحقائق العصر وبقُدسية الوطن وعناصر تماسكه، لا تليق بمُثقّف أو مبدع، أو أكاديمى يحترم إبداعه أو علمه ويقدّر عقول القراء،

لأن المجتمع بكل أطيافه هو مجال إلهامه الحيوي حين يبدع أو يكتب، والذي يخوض في أوحال السياسة المتحرّكة، بلا دراية أو أداة تحليل للصراعات والأزمات، يفقد الكثير من مصداقيته ويشوّه صورته الزّاهية في ذاكرة قرائه، والفضاء مفتوح تُوثّق فيه التّقنية الحديثة حتى همسات الليل في الغرف المغلقة، والذين سقطوا في إمتحان الجدارة والمصداقية عبر التاريخ، كان السّبب هو تناقض مواقفهم وأقوالهم،

وكمثال مالك عقار إير، ظلّ يفاخر بأنه حارب 40 عاماً في الأحراش من أجل وطن جديد تسوده العدالة، ويجد فيه الجميع أنفسهم ويعبّروا عن حقائق وجودهم الثّقافي والاجتماعي والدّيني المتنوع، سقط في لحظة خارج الوعي بالتاريخ يوم قام بحرق علم السُّودان في مشهد درامي مثير، مبذول في الميديا لمن أراد، لأن شهوة السُّلطة عمياء والمصلحة الذاتية صخرة تتحطّم عليها أعظم المباديء فضحت ذلك السُّلوك وعرّته أمام الجميع، حين جلس تحت ذات العلم الذي أحرقه في الماضي، دون ان يُوضّح للشّعب السُّوداني، لماذا أحرق العلم سابقاً ولماذا قبل ذات العلم الآن، ولماذا لم يعتذر عن سقطته الحمقاء تلك،

ففي عصر الصُّورة الرقمية، التي تتحكّم في تفاصيل حياة الخلق، لا سر يُخفى ولا مجال للكذب على الناس، أو نسيان أخطاء الماضي أو التّملُص من الجرائم والاخفاقات و(البلبصة) ومن المفارقات، مفردة البلبصة أدخلها عقار قاموس السّياسة السُّودانية. واليوم ثقافة الشّفافية والإعتراف بالخطأ وبحق الآخر في أن يكون آخر، وقبول الرأي المختلف والاعتذار عن الخطايا والأخطاء وتحمل نتائجها هى جوهر ميزان الحضارة والتّقدم واحترام الذات ومقومات التأهل لقيادة الشُّعوب.

ومن المؤسف أنّنا لم نقرأ تاريخنا جيداً، ولم نتأمّل وقائعه وأحداثه لنستفيد من دروسها وعِبرها، ولم ننظر لأنفسنا في مرايا الآخرين، وحين اتاحت لنا التّكنولوجيا الحديثة وثورة المعلومات ذلك، انصرفنا إلى هوس الظهور السّطحي و الابهار والتفاهة و تجريف الوعى والقيم والأخلاق، بثقافة التّنمر والتّشنيع والتّنطع وتّنميط الآخرين والاستخفاق بذاكرة الشّعب ووعيه، وبرزت صور مخيفة من الأنانية والنرجسية في كتابات غزيرة غير مسؤولة، ستكون كُلفتها باهظة على الأجيال القادمة. فليس كل من يكتب يُدرك ما تخلفه كتاباته من دمار في البناء النفسي للمجتمع، وفي تقديري كانت السُّخرية من أزياء ولباس الدعم السّريع _الكدمول- الذي فرضته بيئة الصحراء وحرّها اللّاهب وبردها القارس، ومحاولات التّعالي على لهجاتهم والتّبكيت على طريقة حديثهم والاستهزاء بهم هى المادة الإعلامية التي صنعت حواضن الاجتماعية لهم، فسخرية الناشطين في وسائل الإعلام والمسرح والسوشل الميديا من أزياء و ألفاظ مجموعة قبلية، أو طريقة تعاملها في المدينة يعني تلقائياً أنّك تسخر من كل المكوّن الاجتماعي صاحب الثقافة والزي المعني، وهذا يقود إلى إنكفاء هذه المجموعات على نفسها ونصرة أبنائها (ظالمة) و(مظلومة)، وهو ما حدث في التّلفزيون القومي بين إبراهيم البُزعي والمذيعة زينب. التّعامل الفوقي مع الآخر والتّقليل من شأن التّنوع الثقافي وإزدرائه، ضمن أجندة الحروب و الصراع السياسي، سلوك ضّار ببلادنا وبمستقبلها، وما تفيض به وسائل التواصل الاجتماعي ساهم بلا شك بدرجة كبيرة في تأجّيج الغُبن والأحقاد وزيادة أوار الحروب وهدم الكثير من الممسكات الوطنية وأضعف التماسك الاجتماعي، وشرخ وجدان السُّودانيين الجمعي الذي شيّده رجال ونساء بجهود عظيمة غير منكورة.
عندما نكتب يجب ألّا يغيب وعينا وإحساسنا بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية تجاه شعبنا..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى