راي

شيء للوطن ــ م.صللح غريبة Ghariba2013@gmail.com ــ التراث السوداني: حصن الهوية ومنارة الصمود ــ بعانخي برس

بعانخي برس

 

 

 

لا يزال صدى الأحداث الأخيرة يُلقي بظلاله الثقيلة على المشهد الوطني، خاصةً ما يتعلق بالتخريب الممنهج الذي طال صروح الذاكرة ومواقع الحضارة. إن تعرُّض المتاحف والمواقع الأثرية لعمليات نهب وتدمير منظَّمة ليس مجرد خسارة لمبانٍ أو مقتنيات مادية، بل هو استهداف مباشر لأعمق ركائز الهوية الوطنية والموروث الحضاري لأمة تمتد جذورها عبر آلاف السنين، وتشهد على ذلك حضارات عريقة مثل كَرمة والأهرامات السودانية والمعابد.
لقد أكدت التصريحات الرسمية الصادرة عن قيادة قطاع الثقافة والإعلام والسياحة على أن هذا الاعتداء هو محاولة لطمس لذاكرة الأمة السودانية بأكملها. وفي خضم هذه التحديات، تبرز قوة الإرادة الوطنية على ترميم ما تهدم واستعادة ما نُهب. ورغم حجم الخسائر، الذي يشمل آلاف القطع الأثرية من المتاحف القومية والتاريخية التي تم العبث بها، تظل الحضارة السودانية، بتاريخها الغني كنقطة التقاء الحضارات والثقافات، عصيّة على الانكسار.
إن التحدي الذي يواجه الإرث الحضاري السوداني لا يمكن أن تُجابهه الجهود الرسمية وحدها، بل يتطلب تضافرًا وطنيًا شاملاً. وهنا يبرز دور المجتمعات المحلية ومنظمات العمل المجتمعي كخط دفاع أول ومستدام.
المجتمعات المحلية هي حارسة المواقع الأثرية في محيطها الجغرافي، ووعيها بأهمية هذه المواقع هو الضمانة الحقيقية لصونها. ومنظمات العمل المجتمعي المهتمة بالسياحة والثقافة تلعب دورًا محوريًا في بناء هذا الوعي. على سبيل المثال، تسعى منظمات مثل “أصدقاء السياحة السودانية” إلى بناء ثقافة سياحية أصيلة، خاصةً وسط الشباب وطلاب الجامعات. هذا الدور لا يقتصر على التعريف بقيمة التراث فحسب، بل يتعداه إلى غرس الانتماء الوطني وترسيخ الهوية من خلال التفاعل المباشر مع هذا الإرث. إن الشباب الواعي هو الشريك الفاعل في جهود الترميم، التوثيق، والمطالبة باسترداد المنهوبات. لقد أسهمت الجهود المجتمعية بالفعل في استعادة العديد من القطع المسروقة، مما يؤكد على أهمية هذا الدور الشعبي.
في معركة حماية الذاكرة، يصبح الإعلام، وخاصة الإعلام السياحي، دور لا يقل أهمية عن دور الخبراء الأثريين. إن دور الإعلام يتجاوز مجرد نقل الأخبار إلى التوثيق والتحشيد بتسليط الضوء على حجم التخريب وتوثيقه، والعمل كمنصة لتحشيد الدعم الوطني والدولي لجهود الاستعادة والترميم، بالإضافة الى الترويج الواعي بتحويل الاهتمام إلى قوة دفع للسياحة الثقافية الداخلية، وغرس ثقافة زيارة المتاحف والمواقع كجزء من تعزيز الهوية، ثم متابعة المسارات القانونية والدبلوماسية التي تتبعها الحكومة للمطالبة باستعادة الآثار السودانية الموجودة في المتاحف العالمية، والعمل كعين للمجتمع في هذه القضايا.
إن الخطط الحكومية المعلنة لإنشاء متاحف في كل ولاية ودعم الدوائر الأكاديمية المتخصصة في دراسة الآثار يجب أن تُصاحَب بحملات إعلامية وسياحية مكثفة تضمن مشاركة الجمهور وتفاعل الشباب.
إن ما حدث هو استهداف لحضارة أمة بأكملها، لكن الاستجابة الوطنية تؤكد أن السودان يمتلك الإرادة على استعادة إرثه وحماية هويته الجامعة. إن الشراكة بين الجهود الرسمية، والوعي المجتمعي الذي تبنيه منظمات مثل أصدقاء السياحة، والقوة التعبوية للإعلام السياحي، هي ثلاثية ضرورية لضمان صون التراث الثقافي للأجيال القادمة. فالتراث ليس مجرد ماضٍ، بل هو ركيزة الحاضر ومفتاح المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى