شيء للوطن ــ م.صلاح غريبة Ghariba2013@gmail.com ــ الصناعة السودانية: خارطة طريق للتعافي والسلام عبر التكامل واللامركزية ــ بعانخي برس
بعانخي برس

شهدت العاصمة السعودية الرياض مؤخرًا خطوة استراتيجية هامة نحو إعادة بناء الاقتصاد السوداني، تمثلت في توقيع إعلان مشترك بين الحكومة السودانية ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) لدعم برنامج التعافي الصناعي في البلاد. هذا التوقيع، الذي جاء على هامش أعمال المؤتمر العام للمنظمة، لا يمثل مجرد التزام دولي، بل هو بمثابة إطلاق رسمي لخارطة طريق تهدف إلى انتشال القطاع الصناعي من تحدياته الراهنة وتحويله إلى قاطرة للتنمية الشاملة والسلام المستدام.
يحدد الإعلان المشترك أولويات واضحة للتدخل، تركز بشكل أساسي على القيمة المضافة للموارد السودانية، وفي مقدمتها المنتجات الزراعية. فالهدف هو تجاوز مرحلة تصدير المواد الخام إلى جذب الاستثمارات لمراكز التصنيع الزراعي، والحد من فاقد ما بعد الحصاد الهائل الذي يستنزف جزءًا كبيرًا من الإنتاج. إلى جانب ذلك، يشمل البرنامج دعم الصناعات المرتبطة بالمياه، والصناعات الدوائية الحيوية، والتحول نحو التصنيع الأخضر، وتقديم الاستشارات في السياسة الصناعية، وبناء القدرات الوطنية.
هذه الأهداف تعكس فهمًا عميقًا للتحديات، وتؤكد التزام الحكومة السودانية بتنفيذ هذا البرنامج الطموح، داعيةً المجتمع الدولي ومؤسسات التمويل والقطاع الخاص والمراكز البحثية لدعم جهودها. التعافي الصناعي هنا ليس غاية اقتصادية فحسب، بل هو أداة لتحقيق التنمية الاجتماعية المستدامة وتعزيز السلام والاستقرار في البلاد.
إن نجاح برنامج التعافي الصناعي يتطلب إحداث تحول جذري في الجغرافيا الاقتصادية للبلاد. تقليديًا، عانت السودان من التركيز المفرط النشاط الاقتصادي والصناعي في العاصمة، وهي سياسة فاقمت من التباينات الإقليمية، وقلصت فرص العمل في الولايات، وزادت من الضغط على البنية التحتية المتهالكة في المركز، فضلاً عن جعل القطاع بأكمله أكثر عرضة للصدمات الأمنية والسياسية كما حدث مؤخرًا.
بصفتي خبيرًا استراتيجيًا، أرى أنه من الضروري بمكان توزيع نشاطات القطاع الصناعي في الولايات السودانية المختلفة بدلاً من حصرها في الخرطوم. يجب أن يتم توجيه الاستثمارات الجديدة والمراكز التصنيعية المخطط لها (خاصة في التصنيع الزراعي) إلى الولايات التي تتوفر فيها الموارد الأولية (القرب من الزراعة والمياه) والأيدي العاملة، مما يحقق مزايا ومنها التنمية المتوازنة بخلق فرص عمل في الأقاليم وتقليل الهجرة الداخلية للمركز، وتعزيز القيمة المضافة الإقليمية بتسهيل ربط المصانع بمصادر المواد الخام (مثلاً، مصانع الزيوت في مناطق إنتاج السمسم وزهرة الشمس)، مما يدعم السلام بإشراك المجتمعات المحلية في العملية التنموية وتوفير عائد اقتصادي يحد من دوافع الصراع، ويساهم في الأمن الاقتصادي بتقليل مخاطر تركز الإنتاج في منطقة واحدة معرضة للاضطراب.
لا يمكن النظر إلى التعافي الصناعي السوداني بمعزل عن محيطه الإقليمي، لا سيما جمهورية مصر العربية. يمثل التكامل الصناعي والاقتصادي بين السودان ومصر فرصة استراتيجية يجب البناء عليها بشكل عاجل لضمان استدامة ونجاح البرنامج، ففي مجال سلسلة القيمة المتكاملة، يمكن للسودان أن يكون المورد الأساسي للمواد الخام الزراعية عالية الجودة (لحوم، قطن، حبوب زيتية)، بينما يمكن لمصر، بفضل قاعدتها الصناعية الأكبر وبنيتها التحتية اللوجستية المتطورة (الموانئ، قناة السويس)، أن تساهم في مراحل التصنيع المتقدمة والتسويق الدولي. هذا يخلق سلسلة قيمة مشتركة تعزز المنتج المشترك وتجعله أكثر تنافسية عالميًا.
الاستثمار المشترك مع مصر بتشجيع رؤوس الأموال المصرية على الاستثمار في مراكز التصنيع الزراعي السودانية، ونقل الخبرة التقنية والإدارية لدعم الصناعات الدوائية والمائية، وبالتالي تنشأ الأسواق المشتركة، حيث تمثل البلدين سوقًا استهلاكيًا ضخمًا، كما أن التكامل يفتح آفاقًا واسعة للنفاذ إلى أسواق إفريقيا ومنطقة الكوميسا والأسواق الأوروبية والآسيوية عبر البنية التحتية المصرية.
في الختام، فإن توقيع الإعلان المشترك مع اليونيدو هو نقطة انطلاق، لكن التحول الحقيقي يتطلب رؤية استراتيجية جريئة ترتكز على اللامركزية الصناعية العادلة، والتكامل الإقليمي العميق مع مصر. بهذه الأسس، يمكن للقطاع الصناعي السوداني أن يتحول من عبء إلى أيقونة للتعافي الاقتصادي ومحرك للسلام الدائم في المنطقة.





