شئ للوطن ــ م.صلاح غريبة – مصر Ghariba2013@gmail.com ــ العدالة في السودان: حلم يجب أن تتحقق ــ بعانخي برس
بعانخي برس

في عالمنا اليوم، حيث تتسارع الأحداث وتتشابك المصالح، يظل القانون هو الخيط الرفيع الذي ينسج نسيج الحياة المجتمعية، ويحافظ على تماسكه. إنه ليس مجرد مجموعة من النصوص والمواد، بل هو روح العدالة التي تسري في شرايين الدول المتحضرة. وفي الثاني عشر من سبتمبر من كل عام، نحتفي بـاليوم العالمي للقانون، وهو مناسبة لا تقتصر على الاحتفاء برجال القانون ومهنتهم النبيلة، بل هي فرصة للتأمل في أهمية سيادة القانون في حياتنا، وتجديد العهد على حمايته وتعزيزه.
ولكل القانُونيِّين السودانيين، الذين يواجهون تحديات جسيمة في سبيل تحقيق العدالة، نرفع قبعة الاحترام والتقدير. ففي ظل الظروف الراهنة التي يمر بها السودان، يصبح دورهم أكثر أهمية من أي وقت مضى. هم حراس القانون، والمدافعون عن الحقوق، والركائز التي ستقوم عليها دولة المستقبل، دولة يسودها القانون وتنتصر فيها العدالة.
عندما نتحدث عن القانون، قد يتبادر إلى الذهن صورة المحاكم والقضاة والمحامين. لكن القانون يتجاوز ذلك بكثير. إنه فلسفة حياة، ومنظومة قيمية تنظم العلاقات بين الأفراد والدولة، تضمن للجميع حقوقهم وواجباتهم. فهو الذي يحمي الملكية الفردية، ويضمن حرية التعبير، ويمنع الاستبداد، ويضع الحدود للسلطة. بدون قانون، يصبح المجتمع غابةً يحكمها الأقوى، وتُداس فيها حقوق الضعفاء.
إن سيادة القانون ليست ترفًا، بل هي شرط أساسي لتحقيق التنمية المستدامة، وبناء مجتمع مستقر ومزدهر. فالمستثمر لا يقدم على استثماراته في بلد لا يضمن له حقوقه، والمواطن لا يشعر بالأمان إذا كان القانون لا يُطبق على الجميع بالتساوي. القانون هو الإطار الذي يحفز الإبداع، ويطلق العنان للطاقات، ويصنع بيئةً صحيةً للنمو والتقدم.
إن الحديث عن العدالة في السودان يحمل شجونًا وتحديات. فبعد سنوات من الصراعات والاضطرابات، أصبح بناء دولة القانون أولوية قصوى. لا يمكن أن تستقيم الحياة السياسية والاجتماعية دون ترسيخ مبدأ أن الجميع سواسية أمام القانون. وهذا يتطلب جهودًا مضنية من جميع الأطراف، ويتطلب إرادة سياسية حقيقية وجهوداً مجتمعية متضافرة. الظروف الراهنة، رغم تحدياتها، تمثل فرصة لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة ومتينة.
أهم الخطوات لتحقيق ذلك بإصلاح وتطهير المؤسسات القضائية، فيجب أن يكون القضاء هو الركيزة الأساسية لدولة القانون. يتطلب ذلك إصلاحاً شاملاً للنظام القضائي لضمان استقلاليته الكاملة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية. يجب تعيين قضاة أكفاء ونزيهين، وإعادة هيكلة المحاكم، وتفعيل آليات المحاسبة والشفافية. كما أن مكافحة الفساد داخل هذه المؤسسات أمر حاسم لاستعادة ثقة المواطن.
صياغة دستور دائم يضمن الحقوق والحريات ، فلا يمكن أن تستقيم دولة القانون بدون دستور دائم ومرن يحدد سلطات الحاكمين ويضمن حقوق المحكومين. يجب أن يضمن الدستور الفصل بين السلطات الثلاث (التنفيذية، التشريعية، والقضائية) وأن يكفل الحريات الأساسية مثل حرية التعبير، والتجمع، وتكوين الجمعيات، بالإضافة إلى حقوق الملكية والمساواة أمام القانون. يجب أن يكون الدستور نتاج حوار مجتمعي واسع يشارك فيه كافة أطياف الشعب السوداني.
بسبب الانتهاكات الجسيمة التي شهدها السودان، من الضروري مزيد من تفعيل آليات العدالة الانتقالية. ولا يقتصر دورها على محاسبة المسؤولين عن الجرائم السابقة، بل تشمل أيضاً جبر الضرر لضحايا الانتهاكات، وإصلاح المؤسسات الأمنية والعسكرية، وتوثيق الحقائق لضمان عدم تكرارها.
بناء دولة القانون في السودان يواجه تحديات كبيرة، أبرزها وجود الجماعات المسلحة، وغياب الاستقرار الأمني، والتدهور الاقتصادي. ومع ذلك، فإن إرادة الشعب السوداني في التغيير هي المحرك الأساسي لتحقيق هذا الهدف. يمكن للمجتمع الدولي أن يلعب دورًا داعمًا من خلال تقديم المساعدة الفنية والمالية، وممارسة الضغط لضمان الالتزام بمبادئ سيادة القانون.
إن العدالة الانتقالية تلعب دورًا محوريًا في هذه المرحلة. فهي ليست مجرد آلية لمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات السابقة، بل هي عملية شاملة لترميم النسيج الاجتماعي، وإعادة الثقة بين المواطنين والدولة. إنها فرصة لمعالجة جراح الماضي، ووضع أسس راسخة لمستقبل لا تتكرر فيه الأخطاء.
في خضم التوتر والصراع، يظل القانون هو بستان السلام. إنه المساحة الآمنة التي يمكن فيها حل النزاعات سلميًا، وتجاوز الخلافات بالحوار. عندما يثق الناس في النظام القانوني، فإنهم لا يلجؤون إلى العنف أو الثأر. وعندما يرى الجميع أن القانون يُطبق بإنصاف، فإنهم يشعرون بالانتماء، ويتعزز لديهم الشعور بالمواطنة.
إن بناء ثقافة احترام القانون لا يقتصر على الحكومات والمؤسسات، بل هو مسؤولية مجتمعية مشتركة. يجب أن تبدأ من الأسرة والمدرسة، وأن تتغلغل في كل جوانب حياتنا. فاحترام إشارة المرور، وعدم التعدي على حقوق الآخرين، والالتزام بالعقود، كلها مظاهر بسيطة لثقافة قانونية راسخة.
وفي هذا اليوم العالمي للقانون، دعونا نجدد العهد بأن نكون حراسًا للعدالة. وأن نعمل كل ما في وسعنا، أفرادًا ومؤسسات، لترسيخ مبادئ سيادة القانون في كل ركن من أركان مجتمعنا. لأننا بذلك لا نحمي فقط الحقوق والحريات، بل نبني مستقبلًا أفضل، لأجيالنا القادمة.
أملنا كبير في أن يزدهر القانون في السودان، وأن يعود الأمن والأمان لكل أرجائه، وأن يصبح القانون هو السيف والدرع الذي يحمي الجميع. فهناك، حيث يسود القانون، تتفتح أزهار الحرية والرخاء.