تقارير

عبد القادر الكتيابي: رحلة الشعر والتصوف في محراب الإبداع ــ القاهرة :  عمرو خان

بعانخي برس

 

 

القاهرة :  عمرو خان

في إطار تعزيز الروابط الثقافية والإبداعية بين الجاليات السودانية في مصر، نظم اتحاد تجمع الفنانين السودانيين بمصر فعالية مميزة بعنوان “مسامرة في بستان الشاعر الكبير”، استضاف خلالها الأديب والشاعر السوداني القدير عبد القادر الكتيابي. جاءت الفعالية لتسلط الضوء على إبداعاته الأدبية ورؤاه الثقافية، وذلك يوم الأحد 9 فبراير 2025 بمقر الاتحاد في حي عابدين بالقاهرة.

تميزت الأمسية بحوار أداره الصحفي محمد إسماعيل، إلى جانب مشاركة غنائية أحياها الفنان عمر خليل، مما أضفى أجواءً فنية مفعمة بالتناغم بين الشعر والموسيقى. حملت الفعالية رسالةً تجمع بين الثقافة والهوية السودانية، وشكلت منصةً للتفاعل بين المثقفين والجمهور.
في دروب الشعر التي تشبه صحراء مترامية الأطراف، حيث لا حدود للخيال ولا قيود على الإلهام، سار الشاعر السوداني الكبير الدكتور عبد القادر الكتيابي بخطى العارفين، مبحرًا في عوالم الكلمة، عاشقًا لها، محاورًا إياها في لحظات التجلي، بعيدًا عن زيف الصناعة وسطحية النظم. لم يكن الشعر عنده مهنةً ولا ترفًا، بل كان صوتًا يناديه في دواخله، يلح عليه حتى يفيض، لا يتصنعه ولا يستدعيه، بل هو ضربٌ من الوحي الذي ينهمر حين تشاء القصيدة، لا حين يريد الشاعر.

منعطفات الرحلة: من كرسي الدراسة إلى ديوان مخطوط يدويًا

بدأ الكتيابي رحلته مع الشعر وهو ما يزال طفلًا على كرسي المدرسة المتوسطة في أم درمان الأهلية، حيث تشكل وعيه الأول، وبدأت الكلمات تهمس إليه، فتتشكل في صور، وتنسج عالمًا داخليًا أغناه بالتأمل والتساؤل. لكنه لم يكن مجرد طالبٍ يتلقى، بل كان مشروع شاعرٍ يرى أبعد من محيطه، ويسعى نحو معرفة أوسع من المناهج الدراسية.

وفي عام 1982، في القاهرة، توّج شغفه الشعري بإصدار ديوانه الأول، ديوانٌ لم يُطبع في دور النشر المعتادة، بل خرج إلى النور بخط اليد، وكأنه شهادة ميلاد شعرية كتبتها الروح قبل القلم. لم يكن مجرّد مجموعة قصائد، بل كان مرآةً لرحلة ذاتية، بدأت من مقاعد الدراسة، وتعززت بالخلوة، حيث انعزل الكتيابي عن ضجيج العالم، ليجد صوته الحقيقي في الشعر، بعيدًا عن تأثير المكان أو الزمان.

التصوف: حالة خاصة في جوهر الإنسان

لم يكن التصوف عند الكتيابي مجرد نزعة روحية أو تأملات فلسفية، بل كان تجربة معاشة، وحالة تتجاوز الطقوس إلى جوهر الوجود الإنساني. التصوف عنده ليس انعزالًا عن العالم، بل تواصلٌ أعمق معه، رؤية تتسع لتشمل ما وراء الظواهر، وسبرٌ أغوار الروح في رحلة البحث عن الحقيقة. في هذا المناخ، تشكلت تجربته الشعرية، فكانت القصيدة لديه ضربًا من الكشف، لا مجرد بناء لغوي محكم.

الخلوة: لقاء الشاعر بذاته

في زمن تكثر فيه المؤثرات الخارجية، ويتأثر الإبداع بالسياق الاجتماعي والسياسي، آمن الكتيابي بأن الشاعر الحق هو من يتأثر بنفسه أولًا، لا بما يدور حوله. لم يكن يكتب لأن الظروف تفرض عليه ذلك، بل كان يكتب حين يحاصره الإلهام، وحين تصبح القصيدة ضرورة لا تحتمل التأجيل. ولهذا كانت الخلوة عنصرًا جوهريًا في تجربته، تلك اللحظة التي يبتعد فيها عن ضجيج العالم، ليصغي إلى نداء داخلي لا يسمعه سواه.

الشعر بين الإلهام والصنعة

يرى الكتيابي أن الشعر ليس مجرد مهارة، بل حالة شعورية تستدعيها لحظة الصدق. فهو يرفض فكرة التخطيط المسبق للكتابة، لأن القصيدة حين تُخضع لمنطق الذهنية الصارمة تفقد روحها، وتتحول إلى مجرد بناء لغوي أجوف. وكما أن الوردة البلاستيكية قد تحاكي شكل الزهرة الحقيقية لكنها تفتقد عطرها، كذلك القصيدة التي تُنظَم بحسابات دقيقة لكنها تخلو من الإحساس، تظل مجرد كلمات بلا نبض.

القصيدة سلاحٌ في يد الواعي

لم يكن الكتيابي يؤمن بأن الشعر مجرد ترفٍ فكري أو وسيلة للبوح الشخصي، بل كان يرى فيه سلاحًا لا ينبغي أن يكون في يد كل من يكتب. فكما أن السلاح في يد الجاهل قد يتحول إلى أداة للخراب، فإن الكلمة حين تكتب بلا وعي قد تُضل بدل أن تهدي. ولهذا كان يعتبر أن الوعي هو الحصن الأول للإبداع، وأن على الشاعر أن يكون صاحب رؤية، لا مجرد ناقل لمشاعره أو صدى لما يسمعه من الآخرين.

الشعراء والتاريخ: من يبقى ومن يسقط؟

التاريخ، كما يراه الكتيابي، أشبه بمصفاة، تسقط منها الكثير من الأسماء، ولا يبقى إلا من حملت أعماله جوهرًا حقيقيًا. فليس كل من كتب صار شاعرًا، وليس كل من نظم أبياتًا دخل سجل الخلود. وحدهم الذين أضافوا للإنسانية معنى، وأشعلوا بكتاباتهم قناديل الوعي، هم من يبقون رغم تقلبات الزمن.

اللغة: الإحساس أولًا

اللغة، عند الكتيابي، ليست مجرد أداة تعبير، بل هي كائن حي، لا تُستخدم بل تُحس. ولهذا كان يرى أن اللغة العربية تمتلك خصوصية تجعلها أكثر من مجرد نظام من القواعد، إنها إحساس متكامل، وحين يفقد الكاتب هذا الإحساس، تصبح كتابته بلا روح، مجرد تراكيب شكلية لا تصل إلى القارئ، لأنها لم تنبع من وجدان حقيقي.

المرأة في حياته: الحضور من كل الجهات

لم تكن المرأة عند الكتيابي مجرد صورة شعرية أو رمزًا يمر عابرًا في قصائده، بل كانت جزءًا أصيلًا من حياته. أمٌ، شقيقةٌ، زوجةٌ، وأربع بنات، كلهن كنّ محيطات به من كل الجهات، يمنحن حياته أبعادًا مختلفة، ويجعلن الشعر لديه أكثر إنسانية، وأكثر قدرة على النفاذ إلى جوهر الأشياء.

خاتمة: الشعرُ قدرٌ لا يُدّعى

لا يرى الكتيابي نفسه “شاعرًا محترفًا”، بل هو يكتب حين يلح عليه الشعر، حين تصبح القصيدة حالة لا يمكن الهروب منها. ربما لهذا السبب، ظلت كتاباته تحمل صدق التجربة، بعيدًا عن التصنع، وخلقت له مكانًا خاصًا في المشهد الشعري السوداني والعربي. لم يكن يومًا باحثًا عن الشهرة، بل كان باحثًا عن الحقيقة، وحين يجتمع الشعر بالحقيقة، يكون الإبداع
أبقى من الزمن.
عن الشاعر والروائي والقاص السوداني عبد القادر الكتيابي:
الاسم: عبد القادر الكتيابي
الولادة: 28 نوفمبر 1954 (71 سنة)
الجنسية: سوداني
المهنة: شاعر وقاص
الأعمال البارزة: “رقصة الهياج صريف الأقلام قامة الشفق”
التصنيف: أديب سوداني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى