راي

شيء للوطن ــ م.صلاح غريبة Ghariba2013@gmail.com ــ 💔 حزني … وحزن كردفان: وداع القامة الدكتور عبد القادر سالم ــ بعانخي برس

بعانخي برس

 

 

 

تتلقى الذاكرة الوطنية أحيانًا صدمات موجعة، لكنها عندما ترتبط برحيل قامة فنية وفكرية كالدكتور عبد القادر سالم، فإن الصدمة تتجاوز حدود الألم الشخصي لتلامس الوجدان الجمعي للأمة بأكملها، ولإقليم عريق هو كردفان الذي كان سالم سفيره الأبرز وصوته الخالد. اليوم، ونحن نودع عملاقًا من أعمدة الغناء السوداني، فإن حزني الشخصي يمتزج بحزن كردفان الممتد، التي خسرت أحد أبنائها الأكثر إخلاصًا لموروثها.
رحيل الدكتور عبد القادر سالم ليس مجرد خبر عابر؛ إنه طي لصفحة ذهبية في تاريخ الفن السوداني. ولي معه ذكريات تمتد في الزمان والمكان. تعود البدايات إلى أيام الصغر، عندما كنا نستمع له مغنيًا في مسرح فرقة فنون كردفان، ذلك المسرح وتلك الفرقة التي كانت تجسيدًا حيًا لروح الإقليم. ثم كانت اللقاءات الدافئة في منزل جارنا الفنان القدير المرحوم عبد الرحمن عبدالله، حيث كانت الموسيقى تنسج خيوط المودة.
استمرت اللقاءات عبر القارات، فكان اللقاء في مدينة الرياض خلال زيارته، وترافقنا سويًا لزيارة مدينة خميس مشيط وأبها التي شهدتا احتفالات ضخمة بصوته وإبداعه. ولم تكن القاهرة بعيدة عن محطاتنا، ففي زيارته للقاهرة مستشفيًا، تكررت اللقاءات، وكان أحدها برفقة المرحوم دكتور حسين محمد عثمان، رئيس الجالية السودانية بمصر، مما يعكس مكانته الاجتماعية والوطنية حتى خارج حدود الفن.
إن هذه الذاكرة الشخصية، المليئة بالود والاحترام، هي مجرد قطرة في بحر العلاقة التي ربطت الملايين به، وبفنه الأصيل.
ما قدمه عبد القادر سالم (مواليد الدلنج، جنوب كردفان 1946) يتجاوز كونه مطربًا وملحنًا. لقد كان باحثًا ومثقفًا وهب حياته لخدمة التراث. هو القامة التي أعادت توزيع وتقديم أغنية “بشاير” من التراث الكردفاني إيقاع “المردوم” الجميل، وكسر بها حواجز الحداثة دون أن يتخلى عن الجذور.
عندما نستحضر كلماته:
قدر ما قلت نغني
جراحك ما بخلني
رميت الخط قابلني
بشاير خيرك جني
فإننا نستشعر ذلك التناغم بين الوجع والأمل، بين الأصالة والتجديد. أغانيه، التي تفوق الأربعين المسجلة بالإذاعة السودانية، ليست مجرد نغم؛ إنها سجل حي للبيئة والثقافة الكردفانية.
الجانب الأكاديمي في سيرة الراحل هو ما يمنحه ثقلاً لا يضاهى. بعد تخرجه من معهد إعداد المعلمين، اختار المسار الأكاديمي لدراسة فنه. تخرجه من المعهد العالي للموسيقى والمسرح عام 1970 كان بداية لمسيرة أكاديمية فريدة توجت بـ:
الماجستير عام 2002: عن أطروحته «الغناء والموسيقى لدى قبيلة الهبانية بجنوب كردفان».
الدكتوراه عام 2005: عن أطروحته «الأنماط الغنائية بإقليم كردفان ودور المؤثرات البيئية في تشكيلها».
لقد كان الدكتور سالم جسرًا بين الثقافة الشعبية والدراسة العلمية المنهجية، واستحق عن جدارة لقب “باحث في مجال الموسيقى التراثية السودانية عامة وموسيقى منطقة كردفان على وجه الخصوص”، وأثرى المكتبة بـ «الغناء والموسيقى التقليدية بإقليم كردفان». هذا المزيج من الإبداع والأكاديمية هو ما جعله أحد أبرز رموز الأغنية السودانية الأصيلة الذي عمل على ترسيخ الهوية الثقافية والفنية للبلاد وطرحها عالمياً.
لم يقتصر عطاء الدكتور سالم على السودان فحسب؛ فقد كان من المطربين القلائل الذين حققوا وجودًا فنيًا كبيرًا في أوروبا منذ عام 1984م. مشاركاته في مهرجانات عالمية امتدت عبر أكثر من 15 دولة أوروبية، وآسيوية وإفريقية، من فرنسا وإسبانيا وبريطانيا إلى اليابان وكوريا الجنوبية والكويت. هذه الجولات لم تكن مجرد حفلات؛ كانت جسورًا ثقافية قدمت إيقاع كردفان للعالم، وخلعت على التراث السوداني ثوب العالمية.
لقد نال الراحل التكريم الذي يستحقه، فزين صدره وسام العلوم والآداب الفضي عام 1976م، وجائزة الدولة التشجيعية عام 1983م.
برحيل الدكتور عبد القادر سالم، لم يخسر السودان مطربًا شهيرًا فحسب؛ بل خسر سفيرًا، وباحثًا، ومجددًا، وكاتبًا، ورمزًا وطنيًا اتسم بالأخلاق الرفيعة والمواقف الوطنية. حزن كردفان اليوم على من غنى لها وتغنى بها، هو حزن كل سوداني أدرك قيمة هذا العطاء الخالد.
رحل الدكتور عبد القادر سالم بعد مسيرة حافلة بالعطاء والإبداع، وترك خلفه بصمة خالدة في الوجدان السوداني. نسأل الله له الرحمة والمغفرة، وأن يتغمده بواسع رحمته. روحه صعدت إلى بارئها، لكن فنه سيبقى يتردد على إيقاع المردوم، يذكرنا دائمًا بجمال وأصالة كردفان والسودان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى