شيء للوطن ــ م.صلاح غريبة Ghariba2013@gmail.com ــ الريف السوداني: مفتاح الاستقرار… من التهميش إلى “نقل المدينة إليه” ــ بعانخي برس
بعانخي برس

شهدت مدينة الدامر بولاية نهر النيل مؤخراً لقاءً وطنياً حاسماً، تمثل في ورشة “التنمية الريفية في السودان”، التي جاءت لترسيخ رؤية الدولة نحو بناء سودان متوازن ومزدهر. الكلمة الافتتاحية للسيد نائب رئيس مجلس السيادة في هذه الورشة لم تكن مجرد خطاب بروتوكولي، بل كانت بمثابة إعلان التزام بمسار إصلاحي يهدف إلى انتشال الريف من عقود من التهميش، وإعادته كـ “ركيزة للاستقرار السياسي، ومحور للعدالة الاجتماعية، وعماد للاقتصاد الوطني”.
لطالما كان الريف السوداني، بثرائه الزراعي والحيواني الهائل، هو مصدر معاش البلاد، ورغم ذلك، عانى تاريخياً من إهمال ممنهج. إن قرار توسيع مهام وزارة الحكم الاتحادي لتشمل التنمية الريفية، والذي أشار إليه نائب رئيس مجلس السيادة، يترجم بوضوح هذا التوجه الجديد نحو “نقل المدينة إلى الريف”، وليس العكس. إنها خطوة تؤكد أن التنمية لم تعد مجرد مشروعات صغيرة أو تدخُلات محدودة، بل هي مشروع وطني متكامل.
إن المعضلة التنموية في السودان لم تكن وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمي لجملة من الأخطاء والسياسات التي سادت منذ الاستقلال عام 1956. وقد حدد نائب رئيس مجلس السيادة محاور أساسية لتشخيص أسباب هذا التخلف في هيمنة المركز وتهميش الأطراف وتركز السلطة والموارد في العاصمة والحواضر، ما أدى إلى حرمان الأرياف من الخدمات والبنى التحتية، وخلق فجوة عميقة رسخت الشعور بالغربة الاجتماعية لدى أهل الهامش، وضعف الاستثمار في البنى التحتية، فظلت الطرق الزراعية والجسور وشبكات الكهرباء والمياه دون الحد الأدنى، محولة مناطق كاملة إلى “جزر معزولة”، و معيقة لحركة الإنتاج والتسويق، وغياب الرؤية الاستراتيجية طويلة الأمد حيث اعتمدت الحكومات المتعاقبة على خطط قصيرة الأجل تذهب مع أي تغيير سياسي، ما أدى إلى غياب التراكم المؤسسي وبدء كل ولاية “من الصفر” في كل دورة.
استنزاف النزاعات والحروب، حيث كانت الصراعات، التي كان أحد أسبابها عدم التنمية المتوازنة، سبباً في تآكل القدرات المالية والبشرية، وعطّلت الإنتاج وأضعفت النسيج الاجتماعي، وسوء إدارة الموارد الطبيعية، فرغم الخصوبة والضخامة في الثروة الحيوانية، ظل الإنتاج تقليدياً وضعيف العائد لغياب التكنولوجيا الحديثة، بالاضافة الى قصور الحكم المحلي وغياب الصلاحيات وافتقار الوحدات الإدارية الريفية للتمويل والصلاحيات والكوادر المؤهلة، أضعف قدرتها على تقديم الخدمات، وتغييب المرأة والشباب بإغفال السياسات التنموية لدور المرأة الريفية، التي تمثل العمود الفقري للإنتاج، ودور الشباب كأكبر طاقة إنتاجية.
إن هذا التشخيص، بتفاصيله القاسية، يضعنا أمام حقيقة أن التنمية الريفية ليست مجرد قضية اقتصادية، بل هي جوهر قضية العدالة الوطنية والاستقرار الشامل.
لا يهدف تشخيص الماضي إلى جلد الذات، بل إلى صياغة رؤية للمستقبل. الرؤية الإصلاحية المطروحة اليوم تتبنى مجموعة من المبادئ التي يجب أن تكون خارطة طريق للعمل الحكومي والمجتمعي، وتمثلت في العدالة في توزيع الموارد، فيجب توجيه الاستثمارات إلى المناطق الأقل نمواً وفق معايير موضوعية، فالبلاد “لن تنهض إلا إذا نهض الريف”، بالاضافة الى تمكين الحكم المحلي فعلياً ومنح الوحدات المحلية الصلاحيات القانونية والمالية اللازمة، لأن “القرار الأقرب للمواطن هو الأقدر على خدمته”.
ربط الريف بالاقتصاد الوطني والعالمي عبر تحسين الطرق، وتسهيل الوصول للأسواق، وتطوير سلاسل القيمة، وتشجيع الصناعات التحويلية، وإدماج المرأة والشباب بتوفير برامج تدريب وتمويل تعزز مشاركتهم كقوة عمل أساسية، وتفعيل شراكة فاعلة ومستدامة بتعزيز التعاون مع المنظمات الدولية والقطاع الخاص للاستفادة من الخبرات والدعم، والاعتماد على العلم والبيانات مع إنهاء عشوائية التخطيط وبناء القرارات على بحوث ميدانية وبيانات دقيقة، ومشاركة المجتمعات الريفية بجعل المجتمعات المحلية شريكاً أصيلاً في صياغة قرارات التنمية وتحديد الأولويات، وهو ما أكدت عليه اتفاقية سلام جوبا.
التنمية، كما جاء في الكلمة، تتحقق بتوفر مقومات أساسية: التخطيط المتكامل، الموارد البشرية الماهرة، السوق الجاذب للشركاء، والوسائل الضرورية كـ (الكهرباء، المياه، التشريعات). كما يجب التخلص من آفة التخطيط التي تفترض أن وزيراً أو وكيلاً غير متخصص يمكنه قيادة مؤسسة مهنية، فالتخصص والكفاءة هما أساس بناء الكوادر.
إن التحدي اليوم ليس في كتابة التوصيات، بل في التنفيذ و التطبيق على أرض الواقع. وإذ تؤكد رئاسة الجمهورية التزامها برعاية هذه الجهود، فإنها تبعث برسالة واضحة: التنمية الريفية هي مشروع وطني بامتياز، وهي الطريق الأقصر لإعادة مكانة السودان كبلد إنتاج، وضمان استقراره المستقبلي.





