شئ للوطن ــ م.صلاح غريبة Ghariba2013@gmail.com ــ التعليم الفني في السودان: مفتاح التعافي وإعادة الإعمار يبدأ بـ “الجدارات” ــ بعانخي برس
بعانخي برس

إنَّ مرحلة ما بعد النزاعات والحروب تمثل لحظة تاريخية فارقة، حيث لا تقتصر الحاجة على إخماد نيران الصراع فحسب، بل تبدأ الملحمة الحقيقية في إعادة بناء ما تهدم، وإحياء الأمل في المستقبل. وفي سياق التعافي الحرج الذي يمر به السودان، وبدايات مراحل إعادة الإعمار، يبرز التعليم الفني والتدريب المهني كأحد أهم الركائز التي لا يمكن الاستغناء عنها. ولتحقيق قفزة نوعية تضمن الجودة والكفاءة، يصبح تطوير مناهج الجدارات للتعليم الفني ضرورة وطنية قصوى، لا ترفًا تعليميًا.
تتطلب عمليات إعادة الإعمار فرق عمل فنية مدربة على أعلى مستوى، قادرة على التعامل مع تحديات البنية التحتية والمشاريع التنموية بكفاءة ومهنية عالية. المناهج التعليمية التقليدية غالبًا ما تركز على الجانب النظري والمعرفي، وهو ما قد لا يسد الفجوة الهائلة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل الفعلي، خاصةً في بيئة تحتاج إلى سرعة الإنجاز وضمان الجودة.
هنا، تتدخل منهجية الجدارات (Competency-Based Education) لتقدم حلاً جذريًا. هذه المنهجية تركز على إكساب الطالب مجموعة محددة من المهارات والمعارف والاتجاهات التي يحتاجها فعليًا لأداء مهمة مهنية بكفاءة عالية. إنها نقلة نوعية من مجرد “التلقين” إلى “التمكين”، حيث يتخرج الطالب وهو يمتلك “جدارة” محددة ومعتمدة، جاهزًا للانخراط مباشرة في سوق العمل والمساهمة الفعالة في مشاريع إعادة الإعمار.
تؤكد التجارب الإقليمية الرائدة على أهمية الشراكة المؤسسية في نجاح تطوير التعليم الفني. تم التأكيد على أن الشريك الصناعي هو عامل أساسي في النهوض بالتعليم الفني، ورافعة الجودة الإنتاجية وسرعتها، بما يحقق التنمية الاقتصادية المستدامة.
لقد قامت هذه التجربة على محاور استراتيجية واضحة، أهمها تحويل المناهج إلى “جدارات” بالعمل على تحويل المناهج الدراسية إلى أخرى قائمة على منهجية الجدارات المهنية، مع خطط طموحة لتعميم هذا التطوير، والشراكة مع القطاع الخاص بإنشاء مدارس تكنولوجيا تطبيقية تطبق معايير الجودة العالمية بالشراكة الفعالة والمباشرة مع القطاع الخاص ورجال الأعمال. هذا يضمن أن تكون مخرجات التعليم مطابقة تمامًا لمتطلبات المصانع والشركات. وتنمية قدرات المعلمين بالتركيز على تدريب وتأهيل المدرسين باعتبارهم حجر الزاوية في تطبيق المناهج الجديدة والوصول بالمدارس إلى مستوى الاعتماد الدولي، والاستجابة لمتطلبات السوق باستحداث برامج وتخصصات جديدة تلبي الاحتياجات المستجدة لسوق العمل، مثل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ونظم الحلي، والتجارة الإلكترونية، والتخصصات الزراعية الحديثة.
إن المنهجية المتبعة، والتي ترتكز على “تكامل الجهود” بين الحكومة والقطاع الصناعي ومنظمات تنمية المشروعات، توفر نموذجًا عمليًا للسودان يمكن البناء عليه. فالاتحاد بين الوزارة المختصة بالتعليم الفني وجهات صناعية فاعلة، يضمن استدامة عملية التطوير وإنتاج كوادر بمستوى عالٍ من المهنية والتقنية.
لتسريع عملية دمج منهجية الجدارات في التعليم الفني السوداني، خاصةً في هذه الفترة المفصلية، يمكن اقتراح خطوات ومنها تأسيس شراكة ثلاثية محكمة بإنشاء هيئة عليا تضم ممثلين عن وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، والاتحادات الصناعية والحرفية السودانية، والمؤسسات المعنية بإعادة الإعمار والتنمية، لضمان مواءمة المناهج الجديدة مع خطط إعادة البناء، وتحديد الجدارات المطلوبة لإعادة الإعمار بإجراء دراسات عاجلة لتحديد التخصصات والجدارات ذات الأولوية القصوى لمرحلة ما بعد الحرب (مثل البناء والتشييد، وإصلاح البنى التحتية، والطاقة، والزراعة الحديثة).
التدريب المكثف للمعلمين بإطلاق برامج عاجلة لتأهيل الكادر التعليمي على تصميم وتطبيق وتقييم المناهج المبنية على الجدارات بالتعاون مع الخبرات الإقليمية والدولية، وإنشاء “مدارس نموذجية للتكنولوجيا التطبيقية” والبدء بإنشاء عدد محدود من المدارس النموذجية في المناطق الأكثر احتياجًا أو ذات الكثافة السكانية العالية، وتطبيق نظام الجدارات فيها بالكامل بالشراكة مع مستثمرين وشركاء صناعيين.
إنَّ الاستثمار اليوم في تطوير التعليم الفني بتبني منهجية الجدارات هو في حقيقته استثمار في رأس المال البشري السوداني، وهو الضمانة الحقيقية لتجاوز محنة الحرب والانطلاق نحو مستقبل مستقر ومزدهر. التعليم الفني المؤهل بـ “الجدارات” ليس مجرد مسار تعليمي، بل هو الجسر الذي سيعبر بالسودان إلى ضفاف التعافي والازدهار.





