راي

شئ للوطن ــ م.صلاح غريبة – مصر Ghariba2013@gmail.com ــ مطلوبات السلم الاجتماعي في السودان ــ بعانخي برس

بعانخي برس

 

 

 

تعتبر المرحلة الراهنة في السودان من أكثر المراحل دقةً وتعقيدًا، حيث تتشابك فيها خيوط الأمل والألم، وتتصاعد فيها أصوات الحرب على حساب دعوات السلام. وفي خضم هذه الظروف العصيبة، يصبح الحديث عن السلم الاجتماعي والتعايش السلمي ضرورة قصوى، لا مجرد ترف فكري. إنها دعوة للبحث عن قواسم مشتركة تلم شتات السودانيين، وتؤسس لمستقبل يرتكز على قيم التسامح والقبول بالآخر. فما هي مطلوبات السلم الاجتماعي والتعايش السلمي في السودان في المرحلة الحالية؟ وما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من تجارب الدول الأخرى، مثل رواندا؟ وكيف يمكن لـمدونة سلوك أن تلعب دورًا محوريًا في هذا المسار؟
لتحقيق السلم الاجتماعي في السودان، يجب على جميع الأطراف، أفرادًا ومؤسسات، أن تتضافر جهودها وتعمل وفق مبادئ محددة. أول هذه المبادئ هو الاعتراف بالآخر. السودان بلد متنوع ثقافيًا وعرقيًا ودينيًا، وهذا التنوع هو ثروة يجب الحفاظ عليها، لا سببًا للنزاع. يجب أن تتوقف لغة الإقصاء والتهميش، وأن يحل محلها حوار بناء يهدف إلى فهم وجهات النظر المختلفة وتقبلها.
ثانيًا، العدالة الانتقالية والمساءلة. لا يمكن بناء سلم اجتماعي حقيقي على أنقاض الظلم والانتهاكات. يجب أن تكون هناك آليات واضحة للمساءلة عن الجرائم المرتكبة، وأن يتم تقديم الجناة إلى العدالة. هذا لا يعني الانتقام، بل يعني إقامة العدل لضمان عدم تكرار الفظائع. العدالة الانتقالية تشمل أيضًا جبر الضرر لضحايا الحرب، سواء كان ذلك ماديًا أو معنويًا، مما يساعد على تضميد الجراح وبناء الثقة المفقودة.
ثالثًا، الإصلاح المؤسسي. المؤسسات الحكومية، وخاصة الأمنية والقضائية، يجب أن تكون مستقلة ومحايدة، وأن تخدم جميع المواطنين دون تمييز. يجب أن يتم بناء جيش وطني مهني يمثل كل مكونات الشعب السوداني، وأن تكون مهمته حماية الوطن، لا الانخراط في الصراعات السياسية.
رابعًا، المصالحة الوطنية. المصالحة ليست حدثًا لمرة واحدة، بل هي عملية طويلة ومستمرة. يجب أن تبدأ من القواعد الشعبية، حيث يجلس شيوخ القبائل وقادة المجتمع المحلي وأفراد العائلات معًا لحل الخلافات بالطرق التقليدية، ومن ثم تتسع لتشمل المستويات العليا. إنها عملية تتطلب الصدق والشجاعة والقدرة على الصفح.
تجربة رواندا بعد الإبادة الجماعية عام 1994 تقدم دروسًا قيمة للسودان. فبعد أن مزق الصراع بين قبيلتي الهوتو والتوتسي البلاد، استطاعت رواندا أن تنهض من تحت الرماد وتؤسس لنموذج فريد في التعايش السلمي.
أولًا، محاكم “جاشاكا” (Gacaca). هذه المحاكم الشعبية المحلية لعبت دورًا حاسمًا في تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة. فبدلاً من التركيز على السجون، سمحت هذه المحاكم للمجرمين بالاعتراف بجرائمهم أمام مجتمعاتهم، مما سمح للضحايا بمعرفة مصير أحبائهم، وأتاح للمجرمين فرصة للاعتذار والعودة إلى المجتمع.
ثانيًا، هوية رواندية موحدة. بعد الإبادة، قامت الحكومة بحظر أي إشارة إلى الانتماء القبلي، وركزت على بناء هوية رواندية موحدة. هذا ساعد على تجاوز الانقسامات القديمة ودمج الهوية الوطنية في نسيج المجتمع.
ثالثًا، تمكين المرأة والشباب. لعبت المرأة الرواندية دورًا محوريًا في إعادة بناء المجتمع. حيث شجع القانون على مشاركة المرأة في الحياة السياسية والاقتصادية، مما أدى إلى تحقيق تقدم كبير في مجالات متعددة. كما تم التركيز على تعليم وتوعية الشباب بأهمية السلام والوحدة.
في خضم الحرب، غالبًا ما تتلاشى القيم الإنسانية، وتصبح الانتهاكات قاعدة لا استثناء. هنا تأتي أهمية وجود مدونة سلوك واضحة وملزمة لجميع الأطراف. يجب أن تتضمن هذه المدونة مبادئ أساسية مثل:
حماية المدنيين: عدم استهداف المدنيين، وحماية المنشآت الحيوية مثل المستشفيات والمدارس.
احترام حقوق الإنسان: عدم ممارسة التعذيب، وعدم الاعتقال التعسفي، وحماية حقوق الأسرى.
الامتناع عن خطاب الكراهية: يجب على القادة والمؤثرين تجنب الخطاب الذي يحرض على الكراهية أو العنف، وتشجيع الحوار السلمي.
الوصول الإنساني: ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المحتاجين دون عوائق.
الخلاصة في إن الطريق إلى السلم الاجتماعي والتعايش السلمي في السودان ليس سهلاً، لكنه ليس مستحيلاً. يتطلب الأمر إرادة سياسية حقيقية، ووعيًا شعبيًا بأهمية الوحدة، وعملاً دؤوبًا على جميع المستويات. إن الدروس المستفادة من تجارب مثل رواندا، جنبًا إلى جنب مع الالتزام بمدونة سلوك واضحة، يمكن أن توفر خارطة طريق للسودان للخروج من نفق الحرب المظلم، وبناء مستقبل أكثر إشراقًا لأجياله القادمة. فالسودان يستحق السلام، وشعبه يستحق أن يعيش في أمن واستقرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى