شئ للوطن ــ م.صلاح غريبة – مصر Ghariba2013@gmail.com ــ قطار العائدين: شهادة على الإنسانية والتضامن المصري السوداني ــ بعانخي برس
بعانخي برس

توقفت عقارب الزمن للحظة على رصيف محطة السد العالي بأسوان، في ذلك اليوم الذي شهد وصول قطار استثنائي. لم يكن قطارًا عاديًا يحمل مسافرين عابرين، بل كان يحمل في طياته آلاف القصص، ومئات القلوب التي تنبض بالحنين لأرض الوطن. لقد كنت شاهدًا، عبر متابعتي الإعلامية، على هذا المشهد الإنساني النادر الذي جسّد أسمى معاني التضامن بين بلدين يجمعهما التاريخ والدم: مصر والسودان.
لقد نقل القطار من القاهرة ليس فقط أمتعة العائدين السودانيين، بل حمل ثقل أيام النزوح، ومرارة الحرب، وشوقًا عميقًا للوطن. كانت وجوههم تحكي عن يقين بأن ضوءًا ينتظرهم في نهاية النفق المظلم. وما أروع المشهد الذي رسمه السفير عبد القادر عبد الله، القنصل العام لجمهورية السودان بأسوان، وهو يقف على الرصيف مع المستقبلين، وعيونهم تتحدث عن وطن يتلقى أبناءه بأذرع مفتوحة. كان هذا المشهد بحد ذاته رسالة أمل ودفء لكل من مرّ بتجربة النزوح القاسية.
إن ما أضفى على هذا المشهد بعدًا إنسانيًا عميقًا، هو الجهد الرسمي المصري الرفيع المستوى الذي تكللت به هذه المبادرة. لم تكن مجرد إجراءات روتينية، بل كانت تجسيدًا لوفاء تاريخي تجاه الأشقاء. فمن التوجيهات الحكيمة للقيادات السيادية في البلدين، إلى الإشراف المباشر لمحافظ أسوان اللواء د. إسماعيل كمال، ومشاركة جميع مؤسسات الدولة، كان التنظيم محكمًا، والعبور إنسانيًا بامتياز. لقد أُعدت الحافلات لنقل الركاب من محطة السد العالي إلى مدينة أبو سمبل، ومنها إلى معبر قسطل، تحت حماية وإشراف أمني وإداري دقيق، مما عكس حرصًا بالغًا على توفير كل سبل الراحة والأمان للعائدين.
لم يكن هذا الحدث مجرد عبور حدود، بل كان لحظة عودة إلى الذات، إلى الجذور. لقد كان الحضور المصري الرسمي، من هيئة السكك الحديدية إلى وزارة النقل وقيادة الأمن بأسوان، بمثابة صك وفاء لجيرة لا تنكسر في المحن، بل تقوى وتتجدد. هذا القطار لم يكن مجرد وسيلة مواصلات، بل كان سفينة نجاة، وممرًا لإعادة وصل ما انقطع، وجسرًا إنسانيًا يعيد رسم ملامح التضامن العربي في لحظة انكسار إقليمي نادر.
لقد لمست في كلمات العائدين السودانيين شكرًا عميقًا لمصر، قيادةً وشعبًا، على ما وجده آلاف اللاجئين من كرم الضيافة والمأوى في مدنها وقراها. هذا الشكر هو شهادة حية على إنسانية الشعب المصري وكرم ضيافته، وهو ما يؤكد أن العلاقات بين البلدين تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة.
في محطة السد العالي، حيث تقف القضبان شاهدة على روايات الخروج والعودة، كُتبت صفحة جديدة من العلاقة بين الشعبين. كانت هذه الصفحة تحمل عنوانًا واضحًا: حين تتكلم الإنسانية، تصمت كل الجغرافيا. لقد أثبت هذا المشهد أن الروابط الإنسانية والتاريخية أعمق بكثير من أي تحديات أو نزاعات. إنه تذكير بأن الجغرافيا قد تفرض حدودًا، لكن الإنسانية لا تعرفها.
المبادرات الإنسانية، كتلك التي شهدناها مع قطار العائدين السودانيين، تلعب دورًا محوريًا في تعزيز الروابط بين الشعوب في أوقات الأزمات، ففي ظل الأزمات، تبرز الحاجة الماسة للدعم والمساندة. عندما ترى الشعوب جهودًا ملموسة تُبذل لمساعدتها، فإن ذلك يرسخ لديها شعورًا عميقًا بالتضامن. هذه الأفعال تتحدث بصوت أعلى من أي تصريحات سياسية، وتُترجم المشاعر الإنسانية إلى واقع ملموس.
الكرم والضيافة والتنظيم الجيد الذي أظهرته مصر تجاه السودانيين، على سبيل المثال، يولد شعورًا بالامتنان العميق. هذا الامتنان لا يقتصر على الأفراد الذين يتلقون المساعدة، بل يمتد ليشمل الشعوب بأكملها، مما يبني أساسًا قويًا للثقة والتقدير المتبادل الذي يستمر حتى بعد انتهاء الأزمة، بجانب خلق ذاكرة جماعية إيجابية فالمواقف الإنسانية الكبيرة تُسجل في الذاكرة الجماعية للشعوب. قصة قطار العائدين في أسوان ستُروى وتُتناقل كدليل على العلاقات الأخوية في أوقات الشدة. هذه القصص الإيجابية تصبح جزءًا من الهوية الثقافية المشتركة، وتعزز الروابط لسنوات طويلة قادمة.
غالبًا ما تظهر الأزمات تحديات غير متوقعة، وتتطلب استجابة سريعة ومنسقة. عندما تعمل الدول ومؤسساتها جنبًا إلى جنب لتخفيف المعاناة، فإن ذلك يكسر أي حواجز قد تكون قائمة ويعزز آليات التعاون في مجالات متعددة، حتى تلك التي قد لا تكون إنسانية بحتة، وفي أوقات الاضطرابات، قد تظهر سرديات سلبية أو محاولات لتأجيج التوترات. المبادرات الإنسانية الفعالة تعمل كدليل قاطع على الإنسانية المشتركة، وتُظهر الوجه الحقيقي للعلاقات بين الشعوب، مما يدحض أي محاولات لبث الفرقة.
باختصار، هذه المبادرات لا تقدم مجرد مساعدة لوجستية، بل هي استثمار في العلاقات الإنسانية على المدى الطويل. إنها تُبرهن على أن التعاون والتعاطف هما أقوى الأدوات لبناء جسور التفاهم والتقارب، حتى في أحلك الظروف.