شئ للوطن ــ م.صلاح غريبة – مصر Ghariba2013@gmail.com ــ عندما يُسكت الرصاص صوت العدالة: اغتيال التجاني صبي وتحولات السودان المظلمة ــ بعانخي برس
بعانخي برس

في زمن تتنازع فيه الأضداد، وتتصارع فيه القوى الخفية والعلنية على مستقبل السودان، جاءت فاجعة اغتيال وكيل النيابة الأعلى التجاني آدم صبي لتكون صدمة جديدة تُضاف إلى سلسلة من الأحداث الأليمة التي عصفت بالبلاد. لم تكن هذه الجريمة مجرد حادثة فردية أو عمل إجرامي عابر، بل هي ضربة قاصمة في قلب العدالة، وإشارة دامغة إلى أن القوى التي لا تؤمن بسيادة القانون قد رفعت رأسها وأصبحت قادرة على إسكات صوت الحق بالرصاص.
اغتيال التجاني صبي، الذي عُرف بنزاهته وتفانيه في محاربة الفساد، ليس حدثًا معزولًا، بل هو انعكاس مباشر للواقع الأمني والسياسي المتدهور في البلاد. فمَن يتجرأ على اغتيال رمز من رموز القضاء في وضح النهار، أو في جنح الظلام، هو لا يستهدف شخصًا بعينه، بل يستهدف مؤسسة العدالة بأكملها. إنه يحاول أن يرسل رسالة واضحة لكل من يفكر في تطبيق القانون أو الوقوف في وجه الفساد والظلم، مفادها أن لا حصانة لأحد، وأن ثمن النزاهة قد يكون حياته.
الرواية الإعلامية التي تداولتها المصادر الإعلامية حتى الآن، دون صدور بيان رسمي امني، تشير إلى أن الجريمة كانت “منسقة ومباغتة”. هذه الكلمات ليست مجرد وصف لعملية إجرامية، بل هي مفاتيح لفهم أعمق لدوافعها. عندما يكون الاغتيال منسقًا، فهذا يعني أنه مخطط له بعناية فائقة، وأن هناك شبكة من الجناة تعمل على تنفيذه. وعندما يكون مباغتًا، فهذا يدل على أن الجناة استغلوا لحظة غفلة أو ضعف في الإجراءات الأمنية المحيطة بالضحية.
لكن لماذا يُستهدف قاضٍ أو وكيل نيابة بهذه الطريقة؟ الإجابة تكمن في سجله الحافل في “مكافحة الفساد وتعزيز سيادة القانون”. في بلد يشهد اضطرابات سياسية وأمنية، تصبح محاربة الفساد عملية محفوفة بالمخاطر. الفاسدون لا يتركون بسهولة مكاسبهم غير المشروعة. إنهم يتواجدون في كل مكان، وقد يكونون جزءًا من شبكات عميقة ومتشابكة تمتلك نفوذًا ومالًا وقدرة على التلاعب بالأحداث. اغتيال التجاني صبي قد يكون ردًا انتقاميًا على عمل قام به، أو حكم أصدره، أو تحقيق فتحه، يهدد مصالح هذه الشبكات.
لم تكن ردة الفعل الشعبية على هذه الجريمة مجرد حزن عابر، بل كانت غضبًا مكتومًا انفجر في وجه حالة الضعف الأمني التي تعيشها البلاد. توافد المواطنون الغاضبون أمام منزل الفقيد، لا للتعبير عن تعازيهم فقط، بل للمطالبة بـ”توفير الحماية لأعضاء السلك القضائي، ومحاسبة الجناة بشكل عاجل”. هذه المطالبات تعكس بوضوح “اتساع فجوة الثقة في قدرة الدولة على حفظ الأمن”.
عندما يشعر المواطنون بأن رموز دولتهم، والقائمين على تطبيق القانون، ليسوا في مأمن، فإن هذا الإحساس يتسلل إلى كل تفاصيل حياتهم اليومية. إذا كان القاضي الذي يحارب من أجل العدالة يمكن أن يُقتل في منزله، فما هو مصير المواطن العادي؟ هذا الشعور بالعجز وانعدام الأمان هو ما يولد الغضب الشعبي، ويدفع الناس للبحث عن بدائل، سواء كانت هذه البدائل في المطالبة بتشديد الإجراءات الأمنية، أو في التشكيك في جدوى المؤسسات الحالية.
تأتي هذه الجريمة في سياق “تصاعد ملحوظ في الهجمات التي تستهدف رموز الدولة”. وهذا هو بيت القصيد. نحن لا نتحدث عن جريمة فردية، بل عن نمط متكرر من الجرائم الموجهة. هذا النمط يعزز المخاوف من أن السودان قد يكون بصدد الدخول في “مرحلة جديدة من عدم الاستقرار الأمني”.
بعد الصراعات السياسية والعسكرية التي شهدها السودان، هل نحن أمام مرحلة جديدة من الصراع، تتمثل في حرب اغتيالات؟ التاريخ يعلمنا أن هذه المرحلة هي الأخطر على الإطلاق. فالاغتيالات السياسية والقضائية لا تستهدف الأفراد فقط، بل تستهدف تدمير البنية التحتية للدولة ومؤسساتها. إنها تهدف إلى خلق حالة من الفوضى واليأس، وإقناع الناس بأن القوة وحدها هي التي تحكم، وأن القانون مجرد حبر على ورق.
إن المسؤولية في هذه الجريمة لا تقع فقط على عاتق الجناة الملثمين الذين أطلقوا الرصاص. بل هي مسؤولية جماعية تقع على عاتق كل من فشل في توفير الأمن للمواطنين، وكل من سمح بتمدد حالة الفوضى والسيولة الأمنية. إنها مسؤولية الدولة في المقام الأول، والتي عليها أن تُثبت قدرتها على حماية مواطنيها، وملاحقة الجناة وتقديمهم للعدالة مهما كان نفوذهم.
لقد فقد السودان واحدًا من أبنائه المخلصين، التجاني آدم صبي، لكن الأمل يكمن في ألا يكون موته عبثًا. يجب أن تكون هذه الجريمة نقطة تحول، تدفع الجميع، من سلطات ومواطنين، إلى الوقوف صفًا واحدًا ضد قوى الظلام التي تحاول أن تسكت صوت العدالة. إن إعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة، وتوفير الحماية لأعضاء السلك القضائي، وملاحقة الجناة، هي خطوات أساسية نحو استعادة الأمن والاستقرار في البلاد.
هل ستكون هذه الجريمة بمثابة جرس إنذار للسلطات السودانية، أم أنها مجرد حلقة جديدة في مسلسل الفوضى الذي يبدو أنه لا نهاية له؟