شئ للوطن ــ م.صلاح غريبة – مصر Ghariba2013@gmail.com ــ اليوم العالمي للنوبة: احتفاء بتاريخ وحضارة عريقة ــ بعانخي برس
بعانخي برس

بصفتي أحد أبناء قبيلة الجعافرة، التي تشارك القبائل النوبية الكريمة جواراً جغرافياً في جنوب مصر، يتزايد اهتمامي بالشأن النوبي يوماً بعد يوم. هذا الاهتمام لا يقتصر على الروابط الجغرافية فحسب، بل يمتد ليلامس شغفي العميق بالحضارة النوبية الضاربة في جذور التاريخ بشمال السودان، بحكم عملي واهتمامي المتواصل بقطاع السياحة. ولذلك، فإن الحديث عن اليوم العالمي للنوبة يحمل في طياته الكثير من المعاني والدلالات التي تستحق التأمل والاحتفاء.
يُعدّ اليوم العالمي للنوبة مناسبة سنوية بالغة الأهمية لتسليط الضوء على هذه الحضارة العريقة التي لم تنل حظها الكافي من التقدير والاهتمام على مر العصور. إنها فرصة فريدة لتذكير العالم أجمع بأن النوبة ليست مجرد منطقة جغرافية على ضفاف النيل، بل هي مهد لحضارة إنسانية ازدهرت لآلاف السنين، وقدمت إسهامات جليلة في مجالات الفن والعمارة والعلوم والروحانيات.
عندما نتحدث عن الحضارة النوبية، فإننا نتحدث عن ممالك قوية مثل كرمة ونبتا ومروي، التي تركت خلفها آثاراً معمارية وهندسية مذهلة تضاهي بل تفوق في بعض الأحيان ما خلفته الحضارات المعاصرة لها. الأهرامات النوبية في مروي، على سبيل المثال، وإن كانت أصغر حجماً من أهرامات الجيزة، إلا أنها تتميز بفرادتها وجمالها الخاص، وتحكي قصص ملوك وملكات حكموا هذه الأرض وشيدوا حضارة عظيمة.
لكن الأهم من الآثار المادية هو الإرث الثقافي غير المادي الذي تتوارثه الأجيال النوبية. اللغة النوبية، بمفرداتها الرنانة ونغماتها المميزة، هي كنز يجب الحفاظ عليه وتوريثه. الفنون النوبية، من غناء ورقص ورسم ونقش، تعبر عن روح شعب أصيل متجذر في أرضه وتاريخه. الكرم النوبي وحسن الضيافة، قيم متأصلة في كل بيت نوبي، تعكس جوهر هذه الثقافة الإنسانية الراقية.
في هذا اليوم، يجب أن نتوقف طويلاً أمام التحديات التي واجهتها الحضارة النوبية والشعب النوبي، خصوصاً بعد التهجير القسري الذي تعرضوا له نتيجة بناء السد العالي. لقد فقد النوبيون جزءاً كبيراً من أراضيهم التاريخية التي كانت تضم بيوتهم وذكرياتهم وآثار أجدادهم تحت مياه بحيرة ناصر. ورغم هذه المحنة الكبرى، صمد النوبيون وحافظوا على هويتهم وثقافتهم، ليضربوا أروع الأمثلة في الصمود والوفاء لأصولهم.
لذلك، فإن الاحتفال باليوم العالمي للنوبة ليس مجرد احتفال بتاريخ مضى، بل هو تجديد للعهد بالحفاظ على ما تبقى من هذا التراث العظيم، ودعم الشعب النوبي في سعيه للحفاظ على هويته ولغته وثقافته. يجب على المؤسسات الثقافية والسياحية والتعليمية أن تلعب دوراً أكبر في التعريف بالحضارة النوبية، وإدراجها ضمن المناهج التعليمية والمواقع السياحية العالمية.
أتمنى أن يكون هذا اليوم العالمي للنوبة نقطة انطلاق لجهود أكبر وأكثر فاعلية في دعم التنمية في المناطق النوبية، وتوفير فرص أفضل لأبنائها، وتشجيع السياحة الثقافية التي تركز على إبراز الجمال والتاريخ النوبي. الحفاظ على النوبة هو حفظ جزء أصيل ومشرق من تاريخ الإنسانية جمعاء.