راي

شئ للوطن ــ م.صلاح غريبة – مصر Ghariba2013@gmail.com ــ المرأة الريفية السودانية بين صمود الأمس وضرورة رعاية الغد ــ بعانخي برس

بعانخي برس

 

 

 

في الخامس عشر من أكتوبر من كل عام، يتجدد الاحتفاء بـ “اليوم الدولي للمرأة الريفية”، هذا اليوم ليس مجرد مناسبة عابرة، بل هو دعوة عميقة للتوقف والتأمل في دور هذه الفئة الصامتة والفاعلة، التي تشكل العمود الفقري للأمن الغذائي والاقتصادي والاجتماعي في معظم بلدان العالم، وخاصة في السودان. إن المرأة الريفية السودانية، أو “القروية” كما تُعرف بمحبة، هي تجسيد حي للعزيمة التي تنمو من تراب الأرض، وقوة الصمود التي تتحدى أقسى الظروف.
على الرغم من التهميش المزمن الذي عانت منه المرأة الريفية في السودان لسنوات، إلا أن الأحداث الدامية التي شهدتها البلاد منذ منتصف إبريل 2023 كشفت عن دورها الرائع والمحوري، لتؤكد أنها ليست مجرد متلقية للمساعدة، بل هي صانعة الحياة وبانية الأمل في أشد اللحظات قتامة.
لقد تحوّل الريف، في كثير من الأحيان، إلى الملاذ الأخير للنازحين الفارين من ويلات المدن ومناطق الصراع. وهنا، برزت المرأة القروية كـ “مُعيلة” ومُنجدة بامتياز. فبينما تشتعل الحرب وتتوقف سلاسل الإمداد، وتتفكك مؤسسات الدولة، بقيت هذه المرأة على الأرض حامية الأمن الغذائي، فهي من حملت على عاتقها مسؤولية الزراعة والرعي في ظل غياب أو نزوح الرجال، مؤمنة قوت أسرتها والنازحين إليها، لتتحول قطعة أرضها الصغيرة إلى خندق صمود ضد الجوع الذي يهدد الملايين.
فتحت البيوت الريفية، بالرغم من تواضعها، أبوابها وقلوبها لملايين النازحين. قدمت المرأة القروية الإيواء والدعم النفسي والمشاركة في الموارد الشحيحة، في مشهد تضامن يندر مثيله وملاذ اجتماعي، وشاركت بقوة في تأسيس وتفعيل شبكات الدعم والمبادرات والمنظمات المحلية التي تقودها النساء، مقدمة خدمات الحماية والدعم لضحايا العنف القائم على النوع الاجتماعي، وخاصة في مناطق النزاع الأكثر تأثراً مثل دارفور وكردفان. أظهرت هذه المنظمات قدرة مذهلة على الصمود والاستجابة السريعة في ظل ظروف أمنية وإنسانية معقدة، بجانب انها هي من حافظت على النسيج الاجتماعي من الانهيار، وحملت عبء رعاية الأيتام وكبار السن، ومحاولة توفير أدنى مستويات التعليم والصحة لأطفال مجتمعها وحارسة للإرث والمجتمع.
إن قصص صمود هؤلاء “البطلات خلف الستار” هي قصص بطولة غير مسلحة، تستحق أن تُكتب بماء الذهب وأن تكون في صميم أي خطة سلام أو تعافٍ مستقبلية، ولا يمكن أن يقتصر الاهتمام بالمرأة الريفية السودانية على المساعدات الإغاثية المؤقتة، خاصة بعد سنوات الحرب التي ضاعفت معاناتها وعرضتها لأبشع الانتهاكات. يجب أن تنتقل الرؤية من “الإنقاذ” إلى “التمكين المستدام”.
إن رعايتها تعني الاستثمار في قدراتها الهائلة، ويمكن تحقيق ذلك عبر محاور رئيسية في الدعم الاقتصادي والتمويل الأصغر المُستدام بتسهيل وتوفير آليات تمويل أصغر ميسّرة ومرنة (قروض دوّارة وتمويل أصغر) مصممة خصيصاً للمشاريع الزراعية الصغيرة والأسر المنتجة، مع إزالة القيود الروتينية لضمان وصول النساء إليها، والتدريب على سلاسل القيمة بتقديم تدريب مهني وتقني متقدم في مجالات الزراعة المستدامة، حفظ وتصنيع المحاصيل، والتسويق، لمساعدتهن على الانتقال من زراعة الكفاف إلى الاكتفاء الذاتي والمشاركة في الأسواق.
تعزيز الحماية والصحة الشاملة ومكافحة العنف والحماية القانونية بإنشاء وتفعيل “مساحات آمنة” للنساء والفتيات وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي المتخصص للناجيات من العنف الجنسي والقائم على النوع الاجتماعي، مع ضمان وصول العدالة ومحاسبة الجناة، بجانب الرعاية الصحية الأساسية والخاصة وتسيير عيادات صحية متنقلة لتوفير خدمات الصحة الإنجابية والأمومة والطفولة في المناطق النائية، وتدريب كوادر محلية لتقديم الإسعافات الأولية والدعم النفسي.
التمكين المعرفي والمشاركة في القرار ومحو الأمية الرقمية والوظيفية بتوفير برامج لخفض نسبة الأمية وتدريب النساء على استخدام التكنولوجيا الزراعية البسيطة ومهارات الإدارة المالية الأساسية والإشراك في صناعة السلام، فيجب أن تكون المرأة الريفية ممثلة بنسب عادلة في كل مفاوضات السلام وآليات التعافي المجتمعي، فهي أكثر من يدفع الثمن وأكثر من يعرف احتياجات الأرض والمجتمع.
في “اليوم الدولي للمرأة الريفية”، ننظر إلى المرأة السودانية القروية التي تخطط، وتزرع، وترعى، وتطعم العالم الصغير المحيط بها وهي تحت قصف المعاناة. إنها ليست رمزاً للمأساة فقط، بل هي أيقونة للصمود والقدرة على البناء. رعاية هذه المرأة ليست عملاً خيرياً، بل هي استثمار استراتيجي في مستقبل السودان. فالسلام الحقيقي لن يتحقق إلا عندما تعود الحياة الكريمة والآمنة والممكّنة إلى كل قرية، وعندما تحتل المرأة الريفية مكانتها المستحقة كشريك كامل في قيادة مسيرة التعافي والبناء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى