راي

دروب الحقيقة _ أحمد مختار البيت _ كادقلي عاصمة..لم لا _ الحلقة (3) _ بعانخي برس

بعانخي برس

 

 

 

كادقلي عاصمة..لم لا
الحلقة (3)

الأمم العظيمة دائماً تقودها الأفكار الملهمة، ولا تحبس حياتها في أدراج الماضي ومعطياته الظرفية وسياقاته التاريخية. الخرطوم لم تكن العاصمة الأولى للسُّودان، قري ّ واربجي وسوبا وسنار والفاشر والعباسية تقلي كانت عواصم سودانية، وآخرها مدينة ود مدني، قبل أن ينقلها المحتل التُّركي إلى الخرطوم، لأسباب تتعلّق بسهولة النّقل النّهري واتساع رقعة البلاد في ذلك الحين وبعدها عن القاهرة والاستانة ؟! .

هذا هو رأي التاريخ، ولم تكن للخرطوم في ذلك الزمان أي ميزة ترجّيحية تفضّلها عن بقية مدن السُّودان، أو قُل قراه المتعدّدة لأن العمران والمباني لم يعرفه كل القطر. هى خيارات المحتل والمستعمر لا خيارات الوطنيين، و بعد أكثر من 200 سنة على تلك الخيارات، مازال موقع الخرطوم بعيد عن أطراف السُّودان، وقد كان من أسباب زيادة الإهمال الحكومي للاقاليم من جهة وفي غُبن المواطن واحساسه بالظلم من جهة أخرى. خاصة أن الحكومات المتعاقبة عبر التاريخ بلا استثناء، عملت على احتكار الصناعات الكبيرة والخدمات الصحية والوثائق الثبوتية للعاصمة بلا مسوق مقنع، فتضاعفت معاناة المواطنين في الأطراف والأقاليم القصيّة، وحين هاجر شبابها وأهلها في السبعينات والثمانينات، إلى مركز تلك الخدمات أو البحث عن فرص عمل وتعويض معرفي لما فاتهم من معارف الحياة في العاصمة الخرطوم، تعاملت معهم السُّلطات الحكومية، كأنهم مجرمون، أو أجانب واستخدمت معهم شتى أنواع العنف والبطش والاعتقالات وعبأتهم في قطارات بائسة وأبعدتهم إلى المجهول في مدن نائية لا يعرفون عنها شيئاً وكانت تلك الممارسات العنصرية المشينة، هى التي بذرت في نفوس الكثير منهم بذرة الثورة على السّلطة المركزية، والبحث عن وطن بديل في مخيلاتهم، وطن يحترم حقهم في الحياة بكرامة، وفي التّنقل، وفي العمل والسّفر والاستقرار في أي بقعة منه، إذا كان حقاً هو وطن الجميع، وكل اجزائه لنا وطن كما يردد المغنون.

واليوم بعد التّطورات المذهلة في وسائل النقل والاتصالات والمعارف والخدمات من حق المواطن في أطراف السُّودان أن يعرف لماذا تبقى العاصمة السياسية والادارية في الخرطوم وحدها، ولماذ تُحتكر الخدمات التي يحتاجها في تعاملاته اليومية في منطقة محددة ؟! وماهو مبرر وجودها بعيداً عنه، ليقطع لها آلاف الكيلو مترات ويدفع مبالغ طائلة للحصول عليها، لوقت قريب كان المواطن من دارفور مثلاً يحتاج أن يسافر لمدة 15 يوماً تزيد أو تنقص، ليصل الخرطوم العاصمة، من أجل استخراج شهادة أو جنسية أو جواز سفر أو كرت صحي، ومع ذلك يُقابل باستفزاز مشين وعراقيل كثيرة، وتحيّزات وقحة لايجد لها تفسيراً،

ومثال آخر ،جبال النوبة من أكثر مناطق السُّودان التي تعرّضت للظلم والغُبن عبر التاريخ، ابقت حكومات ما بعد الاستقلال في 1956م ضريبة الدّقنية والقُطيّة ومال الهواء على المنطقة وحدها لمدة 9 عام، بعد الاستقلال، وهى ضرائب مفروضة منذ عهد الاستعمار، بزعم أن منطقة جبال النوبة لا تُساهم في الدخل القومي تخيّل؟! وزار الزعيم اسماعيل الأزهري كادقلي في العام 1955م، وكانت حدثاً تاريخياً علق بذاكرة كل من حضره، ولم تُلق الدّقنية، ومع ذلك قدحت الزيارة في وعي المواطنين الإحساس بشرف الانتماء للوطن ومن مظاهر ذلك رفض المواطنين تسجيل اسم القبيلة في بيانات هوياتهم ويكتفون بكتابة سوداني. المصدر (عبدالله حماد، مؤلف جبال النوبة وقضايا التقدم ص53) ولكن الحكومات لم تقدّر صبر المواطنين وقوة تحملهم.

وساهم نشاط الأحزاب السّياسية في الارتقاء بانتماء المواطن ونمّت لديه روح الجماعة، وتقلّصت الفوارق الاجتماعية بين أعضاء الأحزاب، وأصبحت دار الحزب في المدينة المعنية، قبلة للأعضاء من مختلف المشارب والقبائل، وبذلك طغى الانتماء الحزبي على الانتماء القبلي والعشائري، قبل أن يندثر ذلك التّطور المهم في الحياة، بانقلاب عبود في 1958م.

إن ابقاء الحكومة لضريبة الدّقنية في جبال النوبة دون سائر مناطق السُّودان ولّد لدى المواطن إحساساً دفيناً بالظلم، خاصة أنها كانت تُحصّل بأساليب قاسية ومهينة للكرامة الإنسانية، حتى ألغتها حكومة ثورة إكتوبر في العام 1964م وألغت معها ضريبة القُطية، بعد مذكرة تقدّم بها اتحاد عام جبال النوبة، لمجلس الوزراء _المصدر السابق-

فالعاصمة، أي عاصمة، إن لم تخدم أغراض الشّعب وتصون كرامته، لن تبقى في ذاكرته، مهما تذرّع كسالى التّفكير وقصار النظر من الانتهازيين بحجج الضغط على الخدمات. تحتاج نخب المثقفين والمتعلمين والقوى الوطنية لدراسة الأخطاء التاريخية والخطايا التي وقعت فيها الحكومات المتعاقبة وبعض المسؤولين المظهريين كالفاتح بشارة، حاكم كردفان الأسبق، للخروج برؤى وبرامج عملية، تعالج جذور الأزمة السُّودانية إن كنا نؤمن حقاً بوحدة بلادنا أرضاً وشعباً. وتحريك العاصمة أو نقلها إلى المناطق المأزومة أهون من الحروب، وهو أمر لا مفر منه بعد أن فشلت ممارسات الاستعمار التي اتبعها المسؤولون في الولايات البعيدة وأعني إدارة الولاية المعنية بالماموريات والزيارات الفوقية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى