
الحديث عن أمِّ المدائن مدني سرٌّ ذا شجونٍ يمتد ويطول، ولكن تظل الحروف تتقزَّم في وصف الجميلة الأصيلة الشفيفة الوريفة “مدني”.
(وروحي ليه مشتَهِيَّة ود مدني؟) نعم، في أي مكان، إنسان مدني يشتاقها شوقًا وحبًّا وذكرياتٍ وآمالٍ وأمنياتٍ بالعودة لضفاف نيلها، وتنسم هواها وعليلها في أمسيات الشتاء، وصباحات الخريف بعد هطول أمطار المساء، ونسيم النيل في عصريات الصيف، وشمس الصيف والموج يعانق القيف.
أم المدائن “مدني” تلك الحالمة الهادئة الوديعة التي يحتضنها النيل في الضفة الغربية بحب، ووضع بصمته في إنسانها هدوءًا وبساطةً وألقًا فكريًّا ووجدانًا عميقًا، وقد ظهر ذلك من خلال الكتابات الشعرية لأصحاب المعاني الجميلة (المسّاح، وخليل فرح، ود الرضي، ومحمد محمود، والسر قدور، وفضل الله محمد)، وكثيرين.
وكذلك من خلال الحنجرة الذهبية للمطربين العمالقة أبناء هذه المدينة: الكاشف، وود اللمين، ومحجوب عثمان، والخير عثمان، وأبو عركي البخيت، وعبد العزيز المبارك، وعصام محمد نور.
فعندما يدوي صوت ود اللمين برائعته (روحي ليه مشتَهِيَّة ود مدني)، ويغرّد الخير عثمان (حنتوب الجميلة)، ويجلجل صوت عركي (بخاف)، ويردِّد عصام محمد نور بشجون (يا روعة لو عزَّ اللقاء ما تقولي فرقنا القدر)، وقد صدق حدسه وفَرَّقنا القدر من الروعة الرايعة الوليفة بسبب الحرب، ولكن دَخَرَ لنا الزمان عودة لنفس المكان بعد أن تذوّقنا مرارة الحرمان، ولكن العود أحمد.
واستطاع ذلك الإنسان المتميز في هذه المدينة أن يعيد إيقاع الحياة فيها بأسرع ما يكون، ببساطته وعدم تعقيده لتفاصيل الحياة، بجمال إحساسه وحبه لناسِه وحبِّه للمكان الذي تربى وترعرع فيه، برغبته في إعادة ترتيب معشوقته (مدني) في أجمل صورها، بل بروحه الجميلة.
رَجَع إنسان مدني لدياره، للشارع التي حفظت خطاه وتردد صداه: لشارع النيل والقهاوي، للزمالك والحكاوي، لحي المطار وأسّيل تشع بريق وبرق عديل، لمول الواحة، للإعدادية استراحة!! لأشرف طعمية وفارس سندوتشات، للشانزليزي، ولمجمع البركات، وكل التكات، لخيرت زمان وجمال المكان، لعبد الباسط الإحسان قطاعي وجملة كمان، لِلزمالك والطقات وجوطة ونقّة في صف العربات.
وما ننسى سوق الأوقاف، مطمئن وما بتخاف، وبهناك الأكشاش واثق وما شَكَّاك في السعر، مجاملين ناس مدني الحلوين، وللحال والأحوال للناس بعد الحرب مقدّرين وما مقصّرين، لناس الخضار وعمنا الجزار، البيْع بحب وابتسامة، وكل عارف الحال من غير ملامة.
ياخ، الشباب الفي الشارع ببيع عصير بقلب قوي، بعزمك بعد التحية تتفضل تشيل!! شباب راقي وجميل، وإنسان مدني أصيل، بحب وبساطة، كريم ومضياف وشفيف وحنين!! أنيق بجمال أسلوبه، وفكره عميق ورزين، شامل كل المعارف، في السياسة حصيف ومجاذِف!!
في الرياضة هدّاف ولعيب، يطْلَع ويخرُج ما عيب، المهم إنه حفيد سانتو، وجكسة، وحَمُّوري، والعجيب العجيب!!
في الثقافة كاتب وناقد وشاعر وقاص، وبِشْمِل كل الأوصاف: مطرب، ملحّن، وغنّاي، وود اللمين شرف ومقياس!!
كل العاش في مدني وجاها مهاجر عرف خيرها، وليه ما ناكر، وعارف كمان قولَة شهيرة لأجدادنا: “سمحين السيرة، ود مدني السني دَشِين، مدني ما بتعرف الشين، مضيااااااافة وبتكرم ناسا، وإنسانها أنيق وقيافة”.





