لم تجد مريم ما يبعد عنها ألم فراق ابنيها علي وجعفر وضياعهما وسط ركام المباني المنارة جراء القصف المدفعي بواسطة الدانات التي تسقط عشوائياً، حيث لم تجد مريم لهم اثر كآنهم تبخروا وسط تلك الحطام، وظلت تبحث عنهما بدون اي استجابة.
اخذت مريم من زاوية منزلها المشيد بالطين المسقوف بقطع من الزنك مقعداً وهي تنظر بحسرة لركام العمارات التي هُدّمت نتيجة للقصف الصاروخي والدانات العشوائية، عيناها ظلتّ تدّمعان لفراق ساكنّيها الذين شردتهم ويلات الحرب الدائرة في البلاد .
لم يكنّ لمريم وسيلة للتعبير عن حزنّها الا بالغناء بصوتٍّ مبحوح شارد وهي تضع يديها أحيانا علي خدودها الشاحبة، وتقوم بالمسح علي خصلات شعرها المنسكب علي كتفيها، كل شئ بات غريباً عنها في ليلة وضحاها واصبحت غريبة من حولها.
لا احد يشاركها في تلك المصيبة وفقدها لابنائها غير الغناء علي صوتّ المدافع والرصاص الحيّ وتحليق الطائرات الحربية الذي لا ينقطع طوال اليوم، لقد كانت الصدمة علي سكان المدينة قوية، فقد تركوا ذكرياتهم علي جدران ونوافذ منازلهم وشوارع وازقة الحيّ وخرجوا بحثاً عن الأمان .
مريم صامدة أقسمت ان لا تبارح منزلها ولا مقعدها، بل انها قامت بجمع من حولها من كلاب وقطط وعصافير، أهل الحيّ السكني تقاسموا معها الأكل والشربّ لتلك الحيوانات حفاظاً عليهم من القتل والسرقة النهب،
بعد أن سرقت كل مقتنيات العمارات والمنازل التي تركها أهلها من شدة وضراوة المعارك واتخاذ المتحاربين لها تروساً ومنصات للقنص، فهي علي حالها لم تفارق المكان حتي ضعف عودها ووهنّ المرض وتغلغل في جسدّها ووهنّ عظمها فضعفت خطواتها وهي تحاول المشي علي حافة الطريق بحثاً عن بضع رغيفات يابسة ،
غير أن هناك قناصاً أعلى العمارات السكنية من يصّوب لها السلاح نحوها وهو ليطلق رصاصتة علي ظهرها فتسقط مريم ميتة، لتلحق بابنائها جعفر وعلي وهي تغنّي علي أصوات الرصاص، لقد ماتت مريم وبكت المباني والكلاب والقطط وحلق الحمام عالياً، وافردت العصافير اجنحتها مودعة مريم التي سقطت علي يد قناص قاتل،
ماتت أم جعفر وعلي، الذين سقطوا من تحت أكوام البنايات العالية ولم يجدوا لهم أثراً، ماتت مريم وصمت صوتها المبحوح للأبد
