شيء للوطن ــ م.صلاح غريبة Ghariba2013@gmail.com ــ ملحمة التماسك: الشمالية تحتضن جرح الوطن ــ بعانخي برس
بعانخي برس

يمر السودان بمرحلة من أصعب مراحل تاريخه الحديث، حيث تتصاعد وتيرة النزاع وتتسع رقعة النزوح الداخلي. وفي خضم هذه الأزمة الإنسانية الطاحنة، تبرز ولاية الشمالية كنموذج مضيء للتكاتف والتضامن الوطني، محوّلة تحديات النزوح القسري إلى قصة ملحمة إنسانية تعكس جوهر الشعب السوداني الأصيل. إن استقبال الولاية لضيوفها القادمين من الفاشر ليس مجرد واجب إنساني، بل هو تأكيد عملي على وحدة النسيج الاجتماعي وقوته في مواجهة المحن.
إن ما يميز هذا المشهد هو التفاعل الواسع والمشترك بين المستويات الرسمية والشعبية. الزيارات الميدانية على مستوى حكام الولايات، والتي تهدف للوقوف على الأوضاع الإنسانية للنازحين، تُرسّخ مبدأ المسؤولية الوطنية المشتركة. الاجتماعات بين المسؤولين، التي تستمع إلى تقارير مفصلة عن أوضاع النازحين والخدمات المقدمة لهم، ليست مجرد بروتوكول، بل هي اعتراف بالإنجازات الكبيرة التي قامت بها حكومة الولاية المضيفة. هذا التنسيق الإداري يبعث رسالة طمأنة مفادها أن الدولة ما زالت قائمة وتعمل على احتواء الأزمة بمهنية.
وفي هذا السياق، تظهر قيمة الثناء والتقدير المتبادل، حيث يثمن المسؤولون جهود الإيواء والخدمات، مشيرين إلى أن هذا العمل يؤكد “تماسك الشعب السوداني”. بل ويتجاوز الطموح مرحلة الإغاثة، ليصل إلى الدعوة لخلق “توأمة استراتيجية في مرحلة ما بعد الحرب”، مما يدل على نظرة مستقبلية تهدف إلى بناء علاقات طويلة الأمد بين أقاليم السودان، أساسها التعاون وإعادة الإعمار.
الجانب الأكثر إلهاماً في هذه الملحمة هو الدور الذي لعبه الإنسان الشمالي. إن استجابة المواطنين في المحليات المختلفة، التي شكلت “ملحمة رائعة في التماسك الاجتماعي”، لهو دليل على أن الإنسانية تتجاوز حدود الجغرافيا والقبلية. الحديث عن عشرات المبادرات المجتمعية التي أقدمت لدعم النازحين يؤكد أن العطاء أصبح ثقافة سائدة ومنظمة.
هذه المبادرات لا تقتصر على جهود الأفراد فحسب، بل تمتد لتشمل مؤسسات الدولة المختلفة. شاهدنا كيف تتسابق جهات مثل السلطة القضائية والمديريات التنفيذية للمحليات الأخرى (مثل مروي) في تسيير قوافل الدعم والمؤازرة. القوافل المحملة بالمواد الغذائية والأسرة لا تمثل مجرد إمدادات، بل هي رسائل رمزية تعبر عن الوفاء والمناصرة لأهالي الفاشر الذين اضطروا لمغادرة منازلهم قسراً بسبب أعمال العنف.
إن تقارير تفقد مراكز الإيواء، مثل مركز العفاض، تكشف عن مستوى الجهد المبذول لضمان “حياة طبيعية كاملة” للنازحين. الحديث عن توفير الخدمات الضرورية كالطعام، الإيواء، والصحة، وصولاً إلى توصيل المياه للخيام، وتشغيل العيادات على مدار الساعة مع خدمات الإحالة المجانية للمستشفيات الكبرى، يؤكد على أن عملية الإغاثة تتم بحرفية ومهنية.
كما أن الاهتمام باستيعاب الكوادر العاملة في المجالات الطبية والتعليمية من بين النازحين يشير إلى رؤية تسعى إلى دمجهم والاستفادة من خبراتهم، وليس مجرد إيوائهم. هذا الدعم الشامل والمستمر، برعاية ومشاركة من المديريات التنفيذية واللجان الأمنية ومؤسسات المجتمع المدني، يجسد عمق الالتزام تجاه المواطنين المتضررين.
إن هذه الملحمة الإنسانية تتشابك مع الشعور الوطني بالانتصار والأمل في المستقبل. ففي الوقت الذي يبعث فيه أحد المسؤولين بالتهاني بـ “الإنتصارات” المحققة في محاور القتال، مؤكداً قرب حسم المليشيا، يتزامن هذا الشعور مع التأكيد على أن “قوافل الدعم والمساندة للنازحين ستتواصل”. هذا الجمع بين الصمود العسكري والتراحم الإنساني يشكلان وجهي العملة للمسيرة الوطنية نحو استعادة الأمن والكرامة.
الولاية الشمالية، بهيئتها ومواطنيها، تقدم دروساً بليغة في كيفية إدارة الأزمات بالقلب والعقل معاً. إن احتضانها لنازحي الفاشر يؤكد أن “قيم التآخي بين مكونات الشعب السوداني” هي الحصن المنيع الذي سيحمي الوطن من التصدع، وأن الدعم المستمر والتضامن الشعبي سيظلان السند الحقيقي حتى تحقق القوات المسلحة والقوات المساندة النصر، ويعود كل نازح إلى دياره مرفوع الرأس.




