شئ للوطن ــ م.صلاح غريبة – مصر Ghariba2013@gmail.com ــ وفاة قمص السودان: حياة حافلة بالعلم والخدمة ــ بعانخي برس
بعانخي برس

بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، ودّع السودان في الثلاثاء 20 مايو 2025، قامة وطنية وروحية عظيمة، شيخ كهنة السودان، الدكتور القمص فيلوثاؤس فرج. كاهن كنيسة الشهيدين، الذي طالما أنار دروب المعرفة والإيمان، ترك خلفه إرثًا غنيًا من العلم والخدمة والعطاء، امتد لأكثر من ستة عقود.
ولد سمير فرج في الرابع من مايو عام 1942. منذ نعومة أظفاره، أظهر نبوغًا واهتمامًا بالتحصيل العلمي. التحق بكلية اللاهوت للكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالقاهرة عام 1959، وتخرج منها عام 1963 بامتياز، محرزًا المركز الأول بين الخريجين. لم يكتفِ بذلك، بل عُيّن مشرفًا على الخدمة القروية لطلبة الكلية الإكليريكية، في دلالة واضحة على تفانيه وحرصه على نشر العلم والخدمة.
انتقلت مسيرته التعليمية إلى السودان، حيث بدأ خدمته في كنائس السودان في 15 ديسمبر 1964. في الوقت نفسه، التحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة فرع الخرطوم قسم الدراسات الاجتماعية، وتخرج منها عام 1969، ليتسلم الليسانس من الرئيس الأسبق جعفر نميري، وكان الأول على دفعته. هذا النجاح الباهر دفعه للالتحاق بالدراسات العليا بين عامي 1969 و1970، في أول مرة تقام في السودان بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، وكان هو الوحيد الذي اجتاز الامتحان بنجاح، ليضع بذلك أسس مسيرة أكاديمية فريدة.
تُوّجت رحلته العلمية بحصوله على درجة الدكتوراه من جامعة جوبا عام 2009، في موضوع “الملائكة الأخيار في المسيحية والإسلام”، ما يعكس اهتمامه بالحوار الديني وتعزيز التفاهم المشترك.
لم تقتصر إسهامات الدكتور القمص فيلوثاؤس فرج على الجانب الروحي والأكاديمي، بل امتدت لتشمل العمل المجتمعي والسياسي. في عام 1990، انتُخب رئيسًا لحي الخرطوم غرب، في معركة انتخابية تحدت الظروف، وانتهت بفوزه الساحق.
مثل السودان في العديد من المؤتمرات الدولية، منها مؤتمر السكان، ومؤتمر الحوار في مجلس كنائس الشرق الأوسط ببيروت وقبرص، ومؤتمر مكافحة المخدرات، وبرلمان الأديان في جنوب أفريقيا، ومؤتمر الحوار في كاليفورنيا وكينيا والأردن وإيران وكوريا الجنوبية. كان أول رئيس لأول جمعية حوار أديان في السودان، ما يؤكد دوره الريادي في تعزيز قيم التعايش والتسامح.
كما كان رئيسًا لجمعية الكتاب المقدس في السودان، وتم اختياره سفيرًا للسلام من قبل فدرالية السلام العالمي، وتسلم وثيقة الترسيم من السيدة الأولى وداد بابكر، في اعتراف دولي بدوره الفاعل في بناء السلام.
كان الدكتور القمص فيلوثاؤس فرج محاضرًا في عدة جامعات سودانية مرموقة، منها الأحفاد، جامعة النيلين، جامعة جوبا كلية النيل اللاهوت، وجامعة العلوم الطبية والتكنولوجية، ما يعكس تأثيره الكبير على الأجيال الشابة.
بالإضافة إلى ذلك، كان عضوًا في العديد من المجالس الاستشارية الهامة، مثل المجلس الاستشاري لوزير الخارجية، ووزير الثقافة، والأمانة العامة للخرطوم عاصمة الثقافة، ووزير السياحة، ووزير التربية والتعليم. هذه العضويات تعكس ثقة الدولة والمجتمع في حكمته ورؤيته الثاقبة.
بدأ الدكتور القمص فيلوثاؤس فرج الكتابة في الجرائد اليومية منذ عام 1965، وله العديد من الأعمدة الصحفية التي أثرت المشهد الثقافي والإعلامي السوداني، مثل “حديث الأحد” في جريدة أجراس الحرية، و”دعوة محبة” في جريدة الأيام، و”فكرة روحية” في جريدة الحرة، و”سودانيات” في جريدة السوداني، و”السودان زمان” في جريدة الوطن، و”أطروحات سودانية” في جريدة آخر لحظة، و”أحلام اقتصادية” في جريدة إيلاف، و”حديث السبت” في جريدة الأهرام، و”حديث الأربعاء” في جريدة الجريدة.
ساهم في تأليف منهج الدين المسيحي لوزارة التربية والتعليم لمرحلة الأساس، بتكليف من الوزارة ومجمع كنائس السودان. طبعت له أمانة الخرطوم عاصمة الثقافة كتاب “سبعون مقالًا عن الملائكة”، وتتوالى طباعة مقالاته التي تجاوزت ألفي مقال في كتب متنوعة، ما جعله مرجعًا فكريًا وروحانيًا للكثيرين.
صدر له العديد من المؤلفات التي أثرت المكتبة العربية، منها: “المسيحية في عيون المسلمين”، “حديث الأيقونات”، “لوحات فنية”، “مواقف تاريخية”، “دراسات قبطية”، “خواطر قلم”، “مساحات الود والاحترام بين المسيحية والإسلام”، “شمس الأمل”، “المؤمنون يتنافسون”، “القادرون يحبون”، “حصاد السنين”، “روحانية الروح والجسد”، “النوبة ملوكًا وشعبًا”، “أطروحات سودانية”، “النوبة وطن الذهب”، “الواقفون على خط النار”، “النيل والسودان الأصيل”، “الأحوال الشخصية لغير المسلمين”، “جامعة الحياة”، “السودان أبو الدنيا”، “النعمة امرأة”، “رجل روحاني على تلال من ذهب”، “الطبيب الروحاني”، “معجزات شال المعجزات”، “الأنبا إبرام أسقف الفيوم وتلميذه”، “السودانوية”، و”أقباط السودان” (جزءان)، و”مسلمون ومسيحيون”.
نال الدكتور القمص فيلوثاؤس فرج العديد من التكريمات من جهات مختلفة، منها معهد كلية الطيران، واتحاد طلبة جامعة أم درمان الإسلامية، ونادي العلمين، وصناع السلام، وشركة ماثيو للبترول، ومنتدى الخرطوم جنوب، ونادي بوهين الثقافي، وسفارة الجنوب في مصر، والجالية السودانية في ألمانيا.
شارك في مؤتمرات عديدة داخل السودان بتقديم أبحاث ورئاسة جلسات، كما شارك في حوارات ومؤتمرات وندوات خارج السودان، مثل معهد الدراسات القبطية بمبنى الأنبا رويس، حيث كان أستاذًا زائرًا.
قدم أطروحات مهمة في قسم التاريخ بمعهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، منها “دبلوماسية ملوك النوبة” عام 2006، و”كنيسة الإسكندرية في ممالك النوبة المسيحية” عام 2007، و”كنيسة الإسكندرية في ليبيا” عام 2008، و”كنيسة الإسكندرية في إثيوبيا” عام 2010.
كان عضوًا في مجلس إدارة جامعة النيلين (جامعة القاهرة فرع الخرطوم سابقًا)، وعضو مجلس أمناء جامعة العلوم الطبية والتكنولوجية (مأمون حميدة)، وتم ترشيحه لعضوية مجمع اللغة العربية.
برحيل الدكتور القمص فيلوثاؤس فرج، فقد السودان قامة وطنية ودينية فذة، لكن إرثه سيظل منارة تضيء دروب الأجيال القادمة، وتبقى ذكراه خالدة في القلوب والعقول.